شهدت السنوات الأخيرة تزايداً ملحوظاً في أعداد الموريتانيين الذين يتجهون إلى الخارج، وخاصة المغرب ، بغرض السياحة وقضاء فترات العطلات. ويصاحب هذا التوجه خروج مبالغ مالية كبيرة من الاقتصاد الوطني سنوياً، ما يطرح تساؤلات مهمة حول أسباب عزوف المواطنين عن السياحة الداخلية، وأثر هذا النزيف المالي على التنمية المحلية وفرص الاستثمار الوطني. تهدف هذه الدراسة الأولية إلى رصد وتحليل حجم الزوار الموريتانيين للمغرب، وتقدير الإنفاق السنوي المصروف هناك، واستجلاء الخسائر التي يتكبدها الاقتصاد الموريتاني نتيجة ضعف القطاع السياحي المحلي، مع اقتراح حلول عملية لتعزيز السياحة الداخلية وجعلها رافداً حيوياً للاقتصاد الوطني.
#أرقام_مخيفة| تشير البيانات(دوائر التأشيرات) إلى أن حوالي 30,000 موريتاني يزورون المغرب سنوياً لغرض السياحة، مع متوسط إنفاق للفرد يقدر بين 3,000 و7,500 دولار أمريكي للرحلة (البنك المركزي)، ما يجعل إجمالي الإنفاق السنوي يتراوح بين 90 مليون دولار و225 مليون دولار.
تحويل مبالغ ضخمة سنوياً من موريتانيا إلى الاقتصاد المغربي.
تشكل هذه المبالغ مورداً هاماً للمملكة المغربية بينما تحرم الاقتصاد الوطني من سيولة نقدية بالعملة الصعبة حيث بلغت نفقات السياحة الخارجية من موريتانيا ما يزيد على 74 مليون دولار عام 2016 حسب بيانات رسمية وواصلت الارتفاع، بينما وصل حجم التجارة الخارجية الموريتانية (الواردات) لما يقارب 0.95% من إجمالي المستوردات سنة 2020 مخصصة فقط للسياحة الخارجية.
خسارة للدورة الاقتصادية الداخلية
خروج هذه الأموال الطائلة من الاقتصاد الوطني يؤدي إلى ضعف دور السياحة الداخلية كمحرك اقتصادي، ويفقد البلاد فرص تطوير البنية السياحية وخلق الوظائف وتنشيط الصناعات المرتبطة، مثل: مطاعم، فنادق، نقل، حرف. في المقابل استطاعت المملكة المغربية أن تجعل السياحة أحد القطاعات الأساسية ذات مساهمة تفوق 7% من الناتج المحلي وأكثر من 11 مليار دولار سنوياً، مع خلق وظائف مباشرة وغير مباشرة لمليون شخص تقريباً.
فشل توفير بدائل وطنية وتعطيل الاقتصاد المحلي
البنية السياحية الموريتانية محدودة جدا، تفتقر للاستثمارات الكافية في الفندقة والأنشطة والعروض السياحية الجاذبة رغم وجود إمكانيات سياحية ضخمة، مثل: صحراء، سواحل، محميات طبيعية، آثار…الخ إلا أن غياب الاستثمار والبنية الأساسية والنقص الحاد في التسهيلات والانفتاح على الشركات الخاصة والسياحة البديلة والإيكولوجية و حتى المرونة الإدارية أعاق تطور القطاع، وزاد حجم الفشل بسبب إخفاق السياسات الاقتصادية في توفير حوافز للقطاع الخاص ولا سيما عبر الاستثمار في المناطق الداخلية الأكثر تهميشاً.
تراجع عائدات السياحة في موريتانيا
تراجع مخيف في قطاع السياحة في موريتانيا خلال العقد الأخير في عائداته، حسب بيانات رسمية من منظمات دولية متخصصة مثل البنك الدولي ومنظمة السياحة العالمية، ففي سنة 2012 سجّلت موريتانيا أعلى قيمة لعائدات السياحة في العقد الأخير بحوالي 50 مليون دولار. و في عام 2017 بلغت العائدات 24 مليون دولار، بانخفاض ملحوظ عن السنوات السابقة. وفي عام 2018 سجلت البلاد تراجعًا حادًا حيث تدحرجت العائدات إلى 6 مليون دولار فقط، وهو أدنى مستوى حتى ذلك الحين. في عام 2019 عرفت انتعاشًا مؤقتًا وارتفعت العائدات إلى 13.7 مليون دولار. و في عام 2020 مع جائحة كوفيد-19، انخفضت العائدات مجددًا بشكل كبير لتبلغ 6.4 مليون دولار فقط، ما يمثل انخفاضًا نسبته أكثر من 53% مقارنة بـ2019 أما في عام 2021 وما بعدها: تشير تقديرات حديثة إلى استمرار تدنّي العائدات، حيث لم تتجاوز 31 مليون دولار في 2021، مع توقعات بمزيد من الانخفاض في السنوات المقبلة لتصل إلى 12 مليون دولار بحلول 2026 إذا لم تُتخذ إجراءات فعالة.
مؤشرات مرتبطة بتراجع أهمية السياحة في الاقتصاد الوطني
بلغت مساهمة السياحة الدولية في الناتج المحلي الإجمالي 0.08% فقط في 2020، بينما كانت أعلى قيمة مسجلة خلال العقد أقل من 2%. نسبة عائدات السياحة من الصادرات هبطت من 1.98% في 2016 إلى أقل من 0.23% في 2020.
يمكن القول أن الأحداث الأمنية الإقليمية وضعف البنية التحتية السياحية و تداعيات جائحة كوفيد-19، التي عطلت السفر الدولي، ساهمت بشكل كبير في هذا التراجع لكن على عتق السياسة الموريتانية جزءا كبيرا من هذه المسؤولية، حيث لا وجود لمبرر لعدم كفاية خدمات الإيواء والتسويق السياحي، رغم المبادرات المحدودة في السياحة البيئية والجهود الأخيرة لتمكين المجتمعات المحلية. هذه الأرقام تعكس بوضوح التدهور المتواصل في عائدات السياحة الموريتانية رغم ما تملكه البلاد من مقومات فريدة ثقافيًا وطبيعيًا، وتستدعي مراجعة جادة للسياسات والاستثمار في القطاع من أجل دعم نمو الاقتصاد الوطني مستقبلاً.
ماذا لو أنُفقت هذه المبالغ في الداخل؟
صرف هذه المبالغ الضخمة في مدن الداخل التي تعاني من الفقر المدقع وقلة الخدمات سيخلق الوظائف وفرص العمل، حيث ستتوجه 90-225 مليون دولار سنوياً إلى السوق الداخلية، الأمر الذي سيحدث آلاف فرص العمل في قطاع السياحة والخدمات والأنشطة المرتبطة كالزراعة والصناعات اليدوية.
ندرك جيدا أن تدفق النقد يساهم في مكافحة البطالة والفقر الريفي، ويدعم تمويل مشاريع صغيرة ومتوسطة ما سيؤدي إلى مضاعفات اقتصادية إيجابية حيث ستتحول الأموال المصروفة محلياً إلى دخل إضافي لمواطنين آخرين، تدعم الاستهلاك الداخلي، وتزيد سرعة دوران رأس المال الوطني. في المقابل ستسفيد الدولة الموريتانية من هذا النشاط الاقتصادي عبر تعزيز عائداتها من الضرائب والرسوم المحلية بدلاً من فقدانها للخارج، هذه العائدات سدفع بالحكومة إلى دعم البنية التحتية والسياحة الإيكولوجية و تطوير المنشآت السياحية يرفع مستوى المنظومة الخدمية (المواصلات، الإيواء، المطاعم)، ويزيد من جاذبية موريتانيا لسياح الداخل والخارج بسبب تلك العائدات المالية.
#توصيات| إن كانت الحكومة الموريتانية تعي حجم الانفاق السنوي لمواطنيها في الخارج، وتدرك ما يمكن أن يحققه محليا عليها أن تعمل من أجل إعادة النظر في سياساتها السياحية عبر: تحفيز الاستثمار في البنية السياحية، خاصة بالمناطق الداخلية و إطلاق حملات ترويجية للسياحة الداخلية وتقديم حوافز للمواطنين لقضاء عطلهم داخل الوطن، وقد أحسن رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني في إصداره تعميما يمنع سفر الوزراء إلى الخارج لكن من المهم تسهيل القوانين والتمويل للقطاع الخاص المهتم بالسياحة والخدمات. الاستثمار في السياحة الداخلية ضرورة اقتصادية عاجلة لوقف نزيف المال الوطني وتعزيز النمو المستدام. هذه الدراسة الأولية تعتمد على بيانات رسمية حديثة ومقاربات اقتصادية تعكس حجم وأثر الأموال المنفقة سنوياً من قبل الموريتانيين في الخارج، مع إبراز الفرص الضائعة والنوافذ الممكنة لإصلاح القطاع وتعزيز الاقتصاد الوطني لو تم توجيه تلك الأموال توجيها ميثاليا
من صفحة المدون سلطان البان