احمد محمد المصطفى يكتب ...مع صبابة الثامن يونيو

قدم قادة فرسان التغيير وأبطاله، وعدد من المشاركين تفاصيل كثيرة، وروايات متعددة حول أحداثه وتطوراته، واهتزازاته الارتدادية اللاحقة، والمحاولات التي تبعت ذلك، لحين قطف "خلية مكناس" ثمار هذا الحراك، والإجهاز على نظام "دوز دوز" الذي كان يلفظ أنفاسه، ولا ينقصه سوى الضربة القاضية.

فيما غابت – حتى الآن – الرواية من الزاوية الأخرى، أي زاوية النظام، وبالأخص شقه العسكري، حيث لم يقدم القادة العسكريون الذين كانوا حينها في مواجهة الانقلاب، أو في الصف الآخر حتى ولو لو يواجهوه، روايتهم لما حدث إلى الآن، وقد لا يبدو ذلك غريبا، لعوامل منها أن الانقلاب – في الحقيقة – فشل نتيجة عوامل أكثر هي ذاتية، وداخلية، وكان سيفشل حتى لو يواجه أي مقاومة تذكر، نتيجة ضعف تنظيم أهله، وعدم وجود جناح مدني أو سياسي، مواكب له في مراحله الأولى، وعدم تنفيذ بعض قادته للأدوار التي كانت مطلوبة منهم، ودور الهواتف في سرعة نقل المعلومات للرئيس ولد الطائع مما وفر له فرصة ذهبية لمغادرة القصر الرئاسي وتجنب القبض عليه، بما يعنيه من نقطة تفوق، وامتلاك ورقة قوة نوعية.

وقد اتضح أن قادة الثامن يونيو امتلكوا الشجاعة والإقدام والضمائر الحية لهز أركان النظام الظالم، دون أن يمتلكوا الأدوات العملية لإسقاطه، أو يقوموا بالتخطيط أو التنسيق اللازم لإنهائه، أحرى توفير بديل عنه، فقاموا بما امتلكوا، ولم يحجزهم ما فقدوا رغم صعوبة المهمة، وحجم المخاطرة.

وربما من العوامل التي جعلت من واجهوا الانقلاب أو كانوا في الصف الآخر يعزفون عن الحديث عنه احتفاظهم بمناصبهم العسكرية سنوات بعد ذلك، بما تقتضيه هذه المسؤولية من تحفظ وبعد عن الأضواء، كما أن منها أن إفشال المحاولة الانقلابية كان "بطعم الهزيمة"، وخلف "هزة" نفسية لدى الرئيس والمحيطين به، والقريبين منه لم يتعاف الجميع منها حتى سقط الرئيس يوم الثالث أغسطس 2005، بعد برهة يسيرة من انتخابات فاز فيها بنسبة 66.66% (قال فيصل القاسم حينها إن النسبة هي 99.99% لكن الأرقام قرئت مقلوبة).

شخصية كانت قريبة من موقع القرار حينها، "أفرجت" لي عن معطيات قليلة، ونتف منها وهناك، قد تشكل - على قلتها وتفرقها - باكورة لراوية الطرف الآخر، علها تدفع بعض من عايشوا تلك المرحلة لكتابة رواياتهم، وتقديم ملاحظاتهم، عن هذه المحطة، أو عن غيرها من المحطات الاستثنائية في تاريخ البلاد، ومن خلال مقارنة مختلف الروايات يمكن للمتلقي أن يبني روايته الخاصة، ويحدد سناريو الأحداث الذي يطمئن أنه الأقرب للحقيقة والصواب.

ومما قاله:
أن الرئيس الأسبق معاوية ولد الطائع غادر القصر الرئاسي بعد عشر دقائق فقط من وصول الدبابات إلى وسط العاصمة، وكان يركب سيارة صغيرة بيضاء، وأنه كان ينوي التوجه إلى قيادة الأركان ليقود منها مساعيه لإفشال الانقلاب.

وأضاف المصدر أن ولد الطائع - بحذره المعروف، واحتياطه الزائد - وبعد أن وصل إلى ملتقى الطرق القريب من الإذاعة، ألقى نظرة باتجاه قيادة أركان الجيش ليكتشف وجود دبابة قد تمركزت أمامها، ما جعله يغير وجهته إلى قيادة أركان الحرس، حيث اختبأ داخلها لحين فشل الانقلاب.

وأشار المصدر إلى أن دبابة تابعة للانقلابيين وصلت فعلا إلى قيادة أركان الحرس، غير أن ضباطا من الحرس أبلغوا الانقلابيين بولائهم لهم، ودعمهم للمحاولة الانقلابية لتعود الدبابة أدراجها مكتفية بهذا "الالتزام اللفظي" غير الدقيق، فيما كان طلبهم الأول، أي الرئيس يختبئ داخلها، ولو قبض عليه، لربما تغير سناريو الأحداث رأس على عقب.

المصدر، قال إن ولد الطائع كان ينوي مغادرة قيادة الحرس، بعيد وصول الدبابة التي تقل الانقلابيين، وحاول المغادرة عبر السيارة البيضاء التي وصل على متنها، غير أن نفاد وقودها جعله يعدل عن هذه الخطة، ويقرر البقاء حيث هو، وكانت نجاته في بقائه، وهناك التحق به مرافقه العسكري العقيد محمد ولد عبدي ولد افليفل رحمه الله تعالى (توفي 26 أغسطس 2016).

سمح قائد أركان الحرس الوطني – حينها – العقيد ولاد ولد حيمدون رحمه الله تعالى (توفي 30 يونيو 2022) لشخصية مدنية وحيدة (ما تزال حاضرة في النقاش العام رغم عدم توليها أي مسؤولية رسمية) بلقاء ولد الطائع، ربما دون إذن منه، وقيل إن هذا التصرف كان سببا في إقالته من منصبه بعد استباب الأوضاع، وتحويله مديرا للحماية المدنية (خارج نطاق الأجهزة العسكرية والأمنية).

وأكد المصدر أن ولد الطائع أمر مدير الأمن حينها العقيد اعل ولد محمد فال رحمه الله تعالى (توفي 5 مايو 2017) بالذهاب إلى المنطقة العسكرية، وترتيب مقاومة منها لإفشال الانقلاب، وكان يتولى قيادتها حينها العقيد محمد ولد محمد ازناكي، وربما كان غير موجود وقت المحاولة.

ينسب إفشال المحاولة الانقلابية بدرجة كبيرة - أو بشكل أكثر دقة استثمار فشلها - إلى ما يعرف بـ"خلية مكناس"، والمفارقة أن ولد الطائع كانت قد راودته شكوك في العام 2000 باحتمالية انقلاب هذه الخلية عليه، لكن معطياته بقيت في مرحلة "ظنية"، وبالتالي تم إبعاد بعضهم من مناصبهم العسكرية البارزة إلى مناصب هامشية، دون أن يتم استبعادهم من المؤسسة العسكرية، قبل أن يستعيدوا سطوتهم ونفوذهم بعد الثامن يونيو 2003.

وعن رده على سؤال حول أدوار القادة العسكريين الذين تولوا مناصب سياسية لاحقة، أو من هم في الواجهة السياسية الآن في إفشال الانقلاب حينها، قال المصدر، إن رئيس البرلمان الحالي محمد ولد مكت، كان حينها قائدا للمنطقة العسكرية الثانية في تيرس الزمور، فيما كان وزير الدفاع الحالي حننا سيدي حننا، قائدا للمنطقة العسكرية الثالثة في آدرار، وكان ولد الغزواني في دورة تكوينية في الأردن، فيما كان ولد عبد العزيز يقود نواة كتيبة الأمن الرئاسي.

كان ولد مكت – حسب المصدر - وقت المحاولة الانقلابية في شكار بولاية البراكنة، حيث غادر فور علمه بالأحداث إلى محل عمله في ولاية تيرس الزمور، مرورا بآدرار، متفاديا المرور بالعاصمة نواكشوط، وفي مدينة أطار انعقد اجتماع ضم ولد مكت، وولد حننا، وقائد المدرسة العسكرية لمختلف الأسلحة في أطار - حينها - العقيد عبد الرحمن ولد ببكر، ووفق المصدر فإن الثلاثي اتفق على مقاومة الانقلاب بكل السبل، ورفض الاعتراف به، والعمل على إفشاله.

وجدت "خلية مكناس" - أو جزء منها - في الانقلاب فرصتها للتمكن أكثر، ولاستبعاد من يخشون عدم انسجامه مع مشروعهم، عبر توريطه بطريقة ما في الانقلاب، كما وقع لقائد المدفعية حينها العقيد إبراهيم السالم، والذي تم اعتقاله، قبل أن يتم إطلاق سراحه، ويوشح في ذكرى الاستقلال 2004، بعد أن ثبتت براءته.

سيغرق نظام ولد الطائع الجريح في كبريائه والمهزوزة ثقته في تصفية حسابات قبلية تركزت على قبليتين أساسيتين، دون أن تقتصر عليهما، وسيتخذ إجراءات عقابية ضد كبار معاونيه، وستتواصل قراراته التي كانت في أغلبها تخطبا لا يستند لمعطيات دقيقة، ولا يتوخى مصلحة محققة.

كانت خيارات النظام حينها محدودة فهو – في الحقيقة – استنفد كل محاولات البقاء، وأضحى عبئا على الجميع بما في ذلك المؤسسة العسكرية، ولعل حديث الناطق باسم الحكومة – حينها – عن خيارات ليبيا وبوركنيا فاسو اللتين اتهمهما النظام حينها بتمويل وإيواء قادة الفرسان تفسر ذلك، فقد أكد أن أمام "الحرباء الليبية والسلحفاة البوركينابية خياران لا ثالث لهما، إما أن تسلم المجرمين الفارين إليها، أو أن تتمادى في غيها".

وكخلاصة، فإن على الشخصيات التي كانت لديها أدوار ما في حياة هذا الشعب، وتولوا مسؤوليات عامة في البلاد، أن يسجلوا للأجيال الحالية والقادمة تجاربهم، ويلخصوا لها أدوارهم، ويبسطوا أمامها إنجازاتهم وإخفاقاتهم علها تفيد في تفادي مخاطر، وفي اختصار طرق، وفي تحقيق مكاسب بأقل تكلفة، وفي فهم أحداث تاريخية بشكل أفضل.