بينما تستعد الحكومة والبرلمان للمصادقة على قانون المالية لسنة 2026، يُطرح سؤال جوهري: هل تمثل هذه الميزانية بالفعل تحولاً نوعياً كما يُروج، أم أنها إعادة تلوين لواقع قديم بأدوات جديدة؟ فالتصنيف البرامجي الذي تفخر به الوثيقة يبقى إطاراً شكلياً ما لم يقترن بتغيير حقيقي في فلسفة الإنفاق وتأثيره المباشر على حياة المواطنين.
صحيح أن الأرقام تظهر نمواً في الإيرادات والاستثمار، لكنها تخفي تحتها اختلالات بنيوية عميقة. فتركيبة الموارد ما زالت تعتمد على سياسات ضريبية مجحفة، فيما تتركز المشاريع الكبرى في مناطق محددة دون معايير واضحة، مما يكرس الفوارق المجالية ويغذي الشعور بالتهميش.
الأمر الأكثر إشكالية يتمثل في هشاشة المقاربة البرامجية نفسها، حيث تفتقد غالبية البرامج الـ 108 إلى مؤشرات أداء قابلة للقياس، وتغيب عنها أهداف كمية واضحة وآليات مساءلة فعالة. كما تختفي المعايير الموضوعية لتوزيع الاعتمادات، وتغيب دراسات الجدوى للمشاريع الكبرى، خاصة تلك المتعلقة بالبنية التحتية التي تستأثر بالنصيب الأكبر من الميزانية.
أما أولويات الإنفاق فتكشف عن اختلال صارخ، حيث تحظى البنية التحتية المادية بالأولوية على حساب القطاعات الاجتماعية الحيوية. ففي التعليم تهيمن النفقات الإدارية على حساب الاستثمار في تحسين الجودة وتوسيع التغطية، وفي الصحة يتركز الإنفاق على التجهيزات دون معالجة النقص الحاد في البنية التحتية والموارد البشرية، خاصة في المناطق الداخلية.
وتُظهر برامج الحماية الاجتماعية تفاوتاً صارخاً بين مخصصاتها المحدودة وحجم الفقر والهشاشة المجتمعية، مما يجعلها عاجزة عن تشكيل شبكة أمان حقيقية في مواجهة ارتفاع تكاليف المعيشة.
أما على صعيد الإيرادات، فتعتمد الميزانية على فرض ضرائب جديدة وزيادة الضرائب غير المباشرة، مما يزيد الأعباء على الفئات الهشة، دون موازاة ذلك بإجراءات حقيقية لمكافحة التهرب الضريبي أو دمج الاقتصاد غير الرسمي.
وبينما تظهر التقديرات تفاؤلاً مبالغاً فيه في بعض القطاعات، يبقى السؤال قائماً: كيف يمكن لميزانية تفتقر إلى مؤشرات أداء واضحة وشفافية في التوزيع وآليات مساءلة فعلية أن تحقق التحول المنشود؟
إن مهمة البرلمان اليوم تتجاوز المصادقة الشكلية إلى المراجعة الجوهرية التي تركز على إعادة توزيع الأولويات لصالح القطاعات الاجتماعية الأساسية، وفرض مؤشرات أداء قابلة للقياس لكل برنامج، وضمان العدالة في التوزيع الجغرافي للمشاريع، وتعزيز الشفافية في المشاريع الكبرى من خلال نشر دراسات الجدوى، وإصلاح النظام الضريبي ليكون أكثر عدالة وحماية للفئات الهشة.
فالميزانية في جوهرها ليست مجرد أرقام تتغير كل عام، بل هي تعبير عن رؤية تنموية واختيارات مجتمعية. وأي وثيقة مالية لا تترجم إلى تحسن ملموس في ظروف العيش تظل ناقصة الشرعية، بغض النظر عن ضخامة أرقامها أو جاذبية عناوينها.