*بيان بشأن ما أثير حول كلام العلامة الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي*
*✒️ أ.د.عصام البشير*
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ للهِ ربِ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبِه أجمعين.
أمّا بعد؛ فقد تتابع في الأيام الأخيرة كلامٌ من مقابلةٍ مطوّلةٍ لفضيلةِ الشيخ الجليل محمد الحسن الددو الشنقيطي—حفظه الله—نُوقش على وجهٍ أُسقط على غير سياقه، فحصل لغطٌ وتطاولٌ لا يليق بمقامِ العلم وأهلِه. وإذ نُجلُّ الشيخ ونشهدُ له بما عُرف به من سعة المعرفة ومن تَحقيقٍ علميٍّ رصين، ونصرةٍ للكتاب والسنّة، ومحبَّةٍ ظاهرةٍ لرسولِ الله ﷺ، فإنّنا نُقرِّرُ ما يلي، بيانًا للحقِّ، ونُصرةً للعدل، وإقامةً لأدبِ الخلاف:
*أولًا: في أصلِ المسألة ومعناها*
إنّ وصفَ وفاةِ النبيِّ ﷺ بـ«المصيبة» حقٌّ لا مِراء فيه؛ فهي أعظمُ مصائبِ الأمّة بنصوص الشرع ولسان العرب. وليس في هذا الوصفِ أقلُّ تعريضٍ بكمالِ البلاغ أو تمامِ الدِّين. وأمّا القولُ إنّ الشريعةَ لم تُنزل «دستورًا تفصيليًا مكتوبًا» على الطريقةِ الحديثة التفصيلية في دساتير الدول، وإنّما جاءت بالأصول الكُلّية—الشورى، والعدل، والبيعة، والرقابة، والأمانة—وتركت تنزيلَ الآلياتِ التنفيذية لاجتهادِ الأمّة في كلِّ عصر؛ فهذا تقريرٌ منهجيٌّ معروفٌ عند المحقّقين، لا يُنافي كمالَ الدِّين، لأنَّ «الكمال» عند أهلِ الأصول هو كمالِ المقاصد ورعاية المبادئ والتزام الضوابط، لا بإلزامِ الناسِ في كلِّ عصرٍ بمدوّنةٍ إجرائيّةٍ واحدةٍ لا تتبدّل.
والشيخ نفسه قد أوضح مقصوده في تسجيل صوتي لاحق، بيّن فيه أن مراده التنبيه إلى عِظَم مصيبة وفاة النبي ﷺ بما أزال الإيهام، وأن الشريعة لم تنـزل "دستورًا تفصيليًا مكتوبًا" على الطريقة المعاصرة في أمر الحكم ،وإنما جاءت بالأصول الكلية الهادية من الشورى والعدل والبيعة الحرة الرضائية، وترك التفصيل لاجتهاد الأمة، وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء المنصفين.
وقد دلَّت نصوصُ الوحيِ وسيرةُ الراشدين على ثوابتٍ محكمة: الشورى، والبيعة، والعدل، ورعايةُ المصالح، ودفعُ المفاسد، ومحاسبةُ الولاة، والنصيحةُ لهم، وتحريمُ الظلم، وتجريمُ الاستبداد.
كما دلَّت على أنّ الآلياتِ التفصيليّة لاختيارِ الإمامِ وتنظيمِ السلطات ومؤسّساتِ الرقابة—من مسائلِ «تحقيقِ المناط» و«تنزيلِ المقاصد»—تجري فيها الاجتهاداتُ بحسبِ الأعصارِ والأمصار، ما دامت محكومةً بالمحكمات. فاجتهادُ الصحابةِ في السقيفة، وشورى الستّة، واجتهاداتُ الأمّة من بعدُ؛ شواهدُ على سعةِ الدائرةِ الإجرائيّة تحت سقفِ الأصول.
*ثانيًا: في منهجِ النظر إلى كلامِ العلماء*
1. حُرمةُ الاجتزاء والتأويل المتعسِّف: من الظلمِ العلميّ أن تُؤخذَ جملةٌ مبتورةٌ وتُحمَّل ما لا تحتملُه من لوازم، ثم تُبنى عليها أحكامٌ قاسية. فالواجبُ ردُّ المتشابهِ إلى المحكم، والمجمل الي المفصل ، والنظرُ في مجموعِ تقريراتِ العالم، لا في مقطعٍ عابرٍ لاسيما وقد رفع الإيهام عنه كلامه اللاحق.
2. حُسنُ الظنّ وحملُ الكلام على أحسنِ محاملِه: هذا أصلٌ جارٍ عند أئمّةِ السُّنّة؛ فكيف إذا كان الحديثُ عن عالمٍ عُرف بتحريرِ المسائل، وتعظيمِ الوحي، ونصرةِ السنّة، ومحبةِ رسولِ الله ﷺ؟! ومن المعلوم أن سوءَ الظنّ بأهلِ الفضل خلافُ هديِ المؤمنين، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ﴾.
3. الاستدراكُ يكونُ بعلمٍ وعدلٍ وأدب: فمن رامَ التصويبَ على عالمٍ، فليأتِ بالبِرْهان، مع حسن الخطاب و مراعاة أدب الخلاف في الإسلام.
*ثالثًا: في الإنكارِ على مسالكِ التهجُّم والتجريح*
إنّ ما صدر من بعضِ الناس من تطاولٍ على الشيخ، ورميٍ للنوايا، وتجهيلٍ وتجريح وتبديعٍ وتكفيرٍ—كلُّ ذلك منكرٌ لا يُقرّه دينٌ ولا خُلُق. ولسنا نتكلّمُ هنا في حقِّ النقدِ العلميِّ الرصين؛ فهو محمودٌ في إطار التزامَ الأدلّةَ والمنهجَية العلمية والأدب. وإنّما ننكرُ «التَّهَم» و«الاستثارةَ الشعبويّة» و«التشنيعَ الإعلاميّ» الذي يُضعِفُ مكانةَ العلم، ويفتحُ على الأمّة أبوابَ فتنةٍ في دينِها ووحدتِها. ومن تمامِ النُّصحِ أن نقول: الطعنُ في أئمّةِ السُّنّة ليس من الدِّين، وتأثيمُ القلوبِ وامتحانُ النيّات ليس من أخلاقِ المؤمنين.
*رابعا : في حق النقاش وواجب التناصح بين العلماء*
ينبغي أن نُفرِّق هنا بين النقاش العلمي الرصين الذي يجري بين العلماء والأساتذة الباحثين، ممَّن أشكلت عليهم عبارةٌ لفضيلة الشيخ فخالفوه الرأي، وناصحوه، مع بقاء التقدير لمكانته، وحفظٍ لفضله، وإقرارٍ بقدره الرفيع؛ فهذا مسلك محمود، فالعلماء بينهم حقُّ المباحثة والمراجعة والنصيحة، والعلم رحمٌ بين أهله، والعصمةُ إنما هي لرسول الله ﷺ، ولم يزل أهل العلم يستدرك بعضهم علي بعض، وبين ما جرى على ألسنة آخرين ممَّن خاضوا في الأمر بغير علم، أو حملتهم خلفياتٌ نفسية وغلبةُ أهواء، فانجرّوا إلى لجاجة الجدل في فضاءات التواصل، تُغذِّي أصواتَهم حملاتٌ إلكترونية موجَّهة لا همَّ لها إلا الإثارة والتشغيب.
*خامسا : كلمةُ أخوّةٍ وإغلاقٌ للباب*
إنّ العلماء حصونُ الأمّة، وبهم تُحفظ الموازين، وتُصان المحكمات، وتُهذَّب الخلافات. فلنحذر أن يفتّ في عضُدنا جدلٌ تُذكيه منصّات لا تُقيم للعلم وزنًا، ولا للأدب قدرًا.
وقد عرفتُ أخي العلامة الجليل الشيخ محمد الحسن ولد الددو منذ عقود، وجمعتنا مجالس علمية ومؤتمرات عديدة، فكان مثالًا للعالم الموسوعي، صاحب النظر العلمي، والوعي المقاصدي، والورع في الفتوى، والبراعة في التنزيل الاجتهادي على الواقع ونوازله، وليس هو بالمعصوم، بل هو بشر يخطئ ويصيب ويراجع ويصحح ويستدرك عليه، شأنه شأن سائر أهل العلم، بيد أن الماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث.
وأحسب أنّ هذه الحملات التي تستهدف أوعية العلم النافع لن تنال من عزيمته ولا من مكانته، ولن تغيّر ما استقرّ له في قلوب الأمة من محبةٍ وتقديرٍ وإجلال، فالعلماء هم ورثة الأنبياء، ومكانتهم في الأمة محفوظة بقدر ما يحملون من صدقٍ وعلمٍ وإخلاص.
فلنُعرض عن حملات التشويه والتهييج، ولنجعل من هذه الحادثة دافعًا لتجديد عهدنا بأدب الخلاف، وحفظ مكانة العلماء، وحسن المحاورة، وتقديم النصيحة بالتي هي أحسن. فذلك أدعى لحفظ وحدة الصف، وصون هيبة العلم، وحراسة وعي الأمة من التمزق والانشغال بما لا طائل تحته.
*ختاما*
نسألُ اللهَ أن يحفظَ علماءَنا بسديد المنهج، والكف من أذى اللِّسان، وأن يرزقَنا وإيّاهم الإخلاصَ والسداد في الرأي، وأن يجمعَ قلوبَنا على الحقّ، ويُلهِمَنا رُشدَنا، ويعصِمَنا من الفتنةِ في القولِ والعمل.
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلّى الله على سيّدِنا محمّدٍ وعلى آله وصحبِه أجمعين.