في قلب موريتانيا، تقع امدينة ألاك التي تتكئ على موروث حضاري ضارب الجذور بيد أن بعض أبنائها يريد لها اليوم أن تُختزل في مواسم صاخبة جوفاء، تُسوَّق تحت لافتة "الثقافة"، وأي ثقافة! فغياب المضمون يظهر جليًا حين نرى أن ما كان يُمثّل يومًا محافل علمية وفكرية وأدبية، قد حل محله الصخب والمجون.
على سبيل المثال، غابت عن الموسم الأنشطة الهادفة التي كانت تشكل جوهر الثقافة في ألاك:
• الملتقيات الأدبية التي كانت تحتفي بالمبدعين المحليين وتناقش قضايا المجتمع.
• المحاظر العلمية التي أنارت العقول وقدمت تعليمًا دينيًا متوازنًا.
• المسابقات القرآنية التي رسخت القيم والأخلاق، وأفرزت أجيالًا من الفقهاء والعلماء.
• المنتديات الثقافية والفنية التي جمعت أهل المدينة على حوار معرفي وفني راقٍ.
في الواقع، هذا الصخب في الظاهر ثقافي، لكنه في حقيقته ساحات للتوظيف السياسي والاستعراض الشخصي. إنها مفارقة صارخة بين مدينة عرفت ذات يوم مؤتمرًا صنع ميلاد الدولة، ومحاظر أنارت العقول، ووجوهًا أسهمت في صياغة الوعي الوطني، وبين واقع حاضر تُستنزف فيه الموارد في مهرجانات عابرة، يغيب عنها جوهر الثقافة ويحضر فيها طنين السياسة.
غير أن هذا الطنين، رغم ضجيجه، لم يستطع استقطاب جميع الفرقاء والفاعلين المرجعيين، فبقي الصخب معزولًا عن روح المدينة وأهلها، حيث غابت الوجوه التي شكّلت عبر التاريخ عصب ألاك الفكري والسياسي، ليحل محلها صخب بلا مضمون، يكشف أن الثقافة لم تكن سوى غطاء لغاية سياسية عابرة.
غياب الشخصيات المرجعية
غابت عن هذه التظاهرة شخصيات وازنة، مثل:
• رئيس البرلمان محمد مكت.
• عمدة ألاك السابق محمد أحمد شلا.
• الوزير السابق محمد يحي سعيد.
• عمدة نواكشوط السابق محمد محمود أغربط.
• الوزير السابق الداه عبدي.
• الوزير السابق محمد عبد الله ولد اداع.
• الوزير السابق سيدي المختار ولد الناجي.
• العمدة السابق محمد عبد بابي.
• النايب السابقة لآل بنت امبارك.
كما غاب:
• محمد عبد الله ولد حيبلتي.
• الشيخ باي ولد الشيخ محمدو (رئيس منسقية أهل الدشرة – ألاك).
• عباس صو (رئيس منسقية أمل الدشرة – ألاك).
• محمد فال (رئيس فرع بلدية ألاك).
• جماعة الحجاج
• ، جماعة ادروات،
• أهل أمبارك في بلدية جلوار،
• وجماعة أولاد نقماش.
هذا الغياب كشف فشل النشاط سياسيًا، حيث استدعى الأمر حضور رموز من مقاطعات أخرى، بل حتى الاستنجاد بأطر من ولاية اترارزة وتكانت لتعويض الفراغ الكبير.
ثقافة غائبة وصخب فارغ
غابت عنا عناوين الثقافة والأدب وهيئات المجتمع المدني التي عايشت الساكنة في مختلف الظروف، وحضر بدلًا منها كشكول من "المثقفين الموسميين" الذين يحضرون لمن يدفع أكثر. فشل المنظمون في جمع أبناء المقاطعة على كلمة واحدة وتحت مظلة الصالح العام، وغاب السعي الجاد لبلورة فكرة جامعة تلمّ الشمل وتبلسم الجراح.
حتى حفل الافتتاح، الذي كان يفترض أن يكون واجهة ثقافية للمدينة، جاء فقيرًا في فقراته الفنية والفكرية، خاليًا من أي إبداع يُشرف ألاك. وقد عبّر كثير من المهتمين بالشأن الثقافي عن امتعاضهم من هذا الانحطاط، وصفه بعض الحاضرين بعبارة "اهذا عاد ايفرك اجماع" .
موارد ضخمة ومآرب موسمية
المفارقة أن الجهة المنظمة لهذا النشاط تقلّدت مناصب وزارية وامتلك فرصًا واسعة لتحصيل موارد مالية ضخمة، لكن هذه الموارد صُرفت في موسم استعراضي بدل توجيهها لبناء مدارس أو تجهيز مستشفيات أو إصلاح طرق. ويزداد المشهد قتامة مع تزامن المهرجان مع موسم الأمطار، في مدينة تعاني غياب صرف صحي وخدمات اجتماعية متردية، ليصبح المهرجان عنوانًا للبذخ وصرف المال في غير محله.
الأضواء الزائفة تخفي الواقع
هذا النمط من الاستثمار في الصخب يعكس عقلية سياسية ترى في المناسبات منصات للتلميع، لا أدوات لتغيير الواقع. والمفارقة أن الأموال تُنفق بسخاء في مثل هذه المناسبات، بينما تغيب عن المشاريع التعليمية والمبادرات التنموية. ومن المفارقات أيضًا غياب صور رئيس الجمهورية صاحب فكرة السياحة الداخلية، وكأن المدينة تعيش خارج اهتمام الرؤية الوطنية.
مدينة التاريخ والثقافة
ألاك مدينة عريقة حملت إرثًا وطنيًا وثقافيًا كبيرًا؛ كانت منارة علم في "محظرة الكحل والصفر"، وموئلًا للتربية الروحية غبر محاضن التصوف ، ومسرحًا لمؤتمر ألاك الذي أسهم في ولادة الدولة الموريتانية الحديثة. أنجبت مدينة أعلامًا كبارًا في الثقافة والأدب مثل الشيخ ولد مكي، ومحمد ولد بوب، ومحمد فاضل ولد عيسى.
لكن هذه المدينة التي طالما كانت منارة للعلم والثقافة يُراد لها اليوم أن تنسلخ من جلدها، وتُختزل في موسم فارغ لا مسابقة قرآنية فيه، ولا محفل أدبي، ولا بحث علمي.
ملامح تحالفات سياسية جديدة
أظهر هذا الموسم، بما رافقه من حضور وغياب، ملامح خريطة سياسية جديدة في ولاية لبراكنه، حيث لم يعد الاصطفاف محكومًا فقط بالانتماءات التقليدية، بل أضحى يتأسس على المواقف من النشاط نفسه ومن رموزه الرئيسيين.
يتضح أن المختار ولد اجاي، وولد اسويدات، وآل الشيخ عبد الله، وإلى حد ما محمد عبد الله ولد اداع يشكلون نواة لتحالف سياسي ولائي في طور التشكل، يسعى إلى تكريس نفوذ جديد داخل الساحة المحلية عبر المهرجانات والمواسم الدعائية.
في المقابل، جاء غياب محمد مكت، ومحمد يحي سعيد، ومحمد أحمد شلا، ، وأهل عبدي ول مكي، والنائب البو كلاع وحاضنته الاجتماعية بمثابة موقف سياسي واضح، لا يمكن قراءته إلا على أنه إعلان غير مباشر عن تشكل نواة حلف سياسي آخر قد يتشكل على مستوى الولاية.
نحو حل مستدام
ليست هذه الملاحظة رفضًا للثقافة أو الفن، بقدرما هي رفض لاستخدامهما كقناع لإخفاء الفقر وسوء توزيع الموارد.
إن تسويق هذه المواسم الصاخبة على أنها ثقافية يشكل اعتداءً على تاريخ المدينة وأخلاق ساكنتها.
ولكي تتحول الأنشطة في ألاك إلى فضاء حقيقي للتنمية، لا بد من تفعيل المسؤولية الجماعية، وتحديد أولويات التعليم والصحة والبنية التحتية، مع استعداد لمواجهة الكوارث الطبيعية. عندها فقط يمكن أن تصبح الموارد أداة لبناء مشاريع مستدامة، وبرامج تشاركية تحترم إرث المدينة وتستثمر طاقات شبابها.
وبهذا التكاتف، يمكن أن تتحول مواسمم ألاك من صخب عابر إلى منصة تنموية حقيقية، تُعيد للمدينة مكانتها كمنارة للعلم والروحانية والتقدم، محافظة على عمقها الثقافي وكبريائها التاريخي.