الخطاب التحريضي لا يبدأ بالعنف، بل يُمهّد له، ويُغذّيه، ويُبرّره. فهو لا يقتل الآخر مباشرة، لكنه يقتل صورته، يفرّغه من إنسانيته، حتى يصبح قتله مجرد “واجب وطني” أو “جهاد مقدّس”. وتتكرّر هذه الأنماط الخطابية عبر ثلاث وسائل: أولًا، نزع إنسانية الآخر بالتشبيهات الحيوانية أو الدونية؛ ثانيًا، شيطنته سياسيًا وإثنيا؛ وثالثًا، صناعة خوف جماعي يوهم الأغلبية بأنها مهدّدة من وجود الأقلية. وإن لم تُكبح هذه اللغة، فإنها سرعان ما تتحوّل إلى أفعال، إلى فؤوس تُرفع، وأحياء تُجتثّ…
كانت رواندا، ذلك البلد الوادع المغمور بين تلاله الخضراء وبحيراته الرقراقة، تُعرف بـ”أرض الألف تلة”. نسائمها كانت تنساب بين الحقول كأنها تبشّر بمواسم حب وطمأنينة، لولا أن هذه النسائم نفسها حملت على أثير إذاعة “RTLM” رسائل شيطانية خبيثة، تسللت إلى بيوت الفلاحين والأسواق والكنائس. قال المذيع: “اقطعوا الأشجار الطويلة”، وكان يقصد بها التوتسي، لأنهم – كما رسخ الاستعمار – أطول قامة من الهوتو. وتابع آخر في بثّ مباشر“الصراصير” يزحفون بيننا، يجب سحقهم”. كانت الرسائل تتكرر بلا انقطاع، مصحوبة بأسماء وعناوين، حتى لم يعد الجار يأمن جاره، ولا الكاهن يطمئن لأفراد رعيته. تحوّل الجيران إلى قتلة، والفؤوس والمعاول إلى أدوات إبادة، فأُزهقت أرواح ما يزيد على 800 ألف إنسان في مئة يوم، فقط لأن صوتًا في الراديو قال لهم: “ابدؤوا التطهير”.
سمّ التحريض تسلّل في ساحل العاج عبر خطاب سياسي ذكي في ظاهره، قاتل في جوهره ، حيث أطلق الرئيس لوران غباغبو ومعسكره مشروع “الإيفواري الأصيل”، فجُرّد الآلاف من حقوقهم، فقط لأن أصولهم تمتد إلى بوركينا فاسو أو مالي. تكررت عبارات مثل: “لن يحكمنا غرباء”، “الشماليون ليسوا منا”، “نريد وطنًا نقيًا من الدخلاء”، في الإعلام، وفي الحملات الانتخابية، وحتى على ألسنة رجال الدين. وهكذا انفجرت الحرب، ليس بين دولتين، بل بين أبناء البيت الواحد، الذين فرّقتهم اللغة، واللون، والمنبت، بعدما كانت قلوبهم واحدة.
لكن، ولله الحمد، في موريتانيا لا تُسمع نداءات إذاعة “RTLM”، ولا تختلط أصوات الأذان بأجراس الكنائس. هذه الأرض التي يجمعها الإسلام، وتوحدها اللغة العربية، ويؤلف بين قلوب أهلها تاريخ مشترك، لم تعرف بعد ذلك النوع المعلن من التحريض الطائفي أو الكراهية العرقية. غير أن الخطر لا يطرق الأبواب دائمًا في صورة مذيع متعصّب أو زعيم موتور؛ أحيانًا، يأتينا متخفيًا في سطور تعليقات، وصور مموّهة، ومقاطع تافهة لكنها مسمومة، في فضاء رقمي لا سقف له.
لقد ابتُلينا بعالم أزرق جميل المظهر، لكنه محفوف بالفتن. في “فيسبوك” ومنصات التواصل، تتطاير خطابات الكراهية كشرر في هشيم. كلمات تُقال على سبيل المزاح، أو التنفيس، أو الغضب العابر، لكنها تستقر في قلب كل مهمَّش، وكل مغبون، وكل جاهل لم تسعفه المدرسة، وكل معوز لا يجد ما يسد به رمق يومه. هناك، في تلك الزوايا المنسية من الوطن، تبدأ الأسئلة المُرّة: لماذا أعيش على الفتات بينما غيري يرفل في النعيم؟ لماذا أُقصى من الفرص، وأُحرم من الأمل، ويُقال لي: انتظر؟ وليس في الأفق أنواءُ عدالة اجتماعية، ولا بشائر حقيقية لتكافؤ الفرص؟!!..هنا تبدأ الشقوق الصغيرة في الجدار الأخلاقي العام، وقد تتحول مع الزمن إلى شروخ تُسقط البنيان كله.
الخطر الأكبر ليس في أن نختلف، بل في أن نسمح لاختلافنا أن يُسلَّح بالكراهية، وأن يُستغل وجع الفقراء لصناعة عدو وهمي، أو فتنة نائمة. وحين تُستباح الحقيقة باسم الانتماء، وتُقايَض الأخوّة بالامتيازات، فثمة شيء عميق ينهار، وإن بدا ظاهر الأمور مستقرًا.
إن تكرار الصمت أمام التحريض هو تواطؤ. التاريخ يعلّمنا أن المجازر لا تبدأ برصاص، بل بكلمات. وعلينا أن نصغي جيدًا لما يُقال… قبل أن يُزهق من جديد ما لا يُقدّر بثمن.
لقد علّمتنا المآسي الإفريقية، من رواندا إلى آبدجان، أن الكلمة ليست بريئة، وأن الحرف إذا خلا من الضمير، صار أداة هدم لا تقل فتكًا عن الرصاص. وفي زمنٍ تتكاثر فيه المنابر، وتتلاشى فيه الحدود بين الحقيقة والدعاية، يصبح الوعي الإعلامي مسؤولية جماعية، لا تقتصر على الدولة ولا على النخب وحدها، بل تشمل كل من يكتب، ويعلّق، وينشر.
ولعل أول خطوة في الطريق الطويل نحو الأمان، هي إيقاظ الضمير الجمعي لمواجهة الخطاب المُحرّض لا بالتجاهل، بل بالردّ الواعي، والنقد الصادق، وبناء مساحات مشتركة تتيح لكل صوت أن يُسمع دون أن يُقصي الآخر. كما أن تعزيز العدالة الاجتماعية، وتوسيع دائرة المشاركة، وإصلاح التعليم والإعلام ليست مجرد شعارات، بل هي السدّ الحقيقي الذي يحول دون تسرب سموم الكراهية إلى شرايين المجتمع.
فالكارثة لا تبدأ بسفك الدماء، بل حين نكفّ عن الشعور بالخطر، ونعتاد سماع الكراهية دون أن نرتجف.
محمد الأمين ولد الداه