بقلم الكاتب إبراهيم الدويري
من خلفية اهتمامي البحثي بالجوانب القيادية في سيرة القائد الشهيد المشتبك يحيى السنوار خصصت وقتا منذ استشهاده لرصد التفاعل الشعبي والأدبي والإعلامي مع أخبار حياته وطريقة ارتقائه، وهو تفاعل فطري يقدس أهله قيم الفروسية والشجاعة والموت في سبيل الله والمبدأ والدفاع عن المقدسات، ولم يشذ عن ذلك الإكبار الملهِم إلا ما توارد عليه أحد أبرز منظري العلمانية في العالم العربي، وتنظيم الدولة “داعش” من بخس لعظمة الشهيد وأسطوريته الملهمة مع الاختلاف الواضح بين مهارة المنظر وحدية التنظيم.
لن أتوقف طويلا مع هذا التوارد الغريب بين طرفي نقيض في الظاهر؛ لأن نتيجة الغلو واحدة وإن اختلفت المقدمات؛ فالمنظِّر “ذو الخلفية اليسارية” استدعى في مقاله تشي جيفارا ليظهر أن السنوار لم ولن يصل إلى تلك الرمزية الأسطورية التي ربما ملأت ذهن المنظر في شبابه، وبيان داعش استدعى جيفارا ليغض من سيرة القائد أبي إبراهيم الجهادية، ويطعن في مقاصده الإسلامية.
ولن أطيل أيضا لأن التعليقين كانا نشازا في ظل إجماع وجداني إسلامي وإنساني على الصورة الملهمة والخاتمة الأسطورية لرجل نذر نفسه لقضيته المقدسة، ولأن الأحكام التقييمية المستندة إلى الخلفيات الآيدلوجية السوداء يستحيل نقاشها، فقد علمنا من أنفسنا ومن ممارسة تاريخ الأفكار والتدافع مع التيارات أن المؤدلج مهما بلغ من العمر والنضج العقلي تتلبسه حالة من الحدية وقلة الاتزان في تقييم الأفكار والمواقف والأشخاص الموافقين والمخالفين، ولك أن تقارن بين نعي المفكر العربي الكبير لأبي ميلاد وأبي إبراهيم، وهما رفيقا أسر وقضية واستشهاد.
التركيز على الصورة الملهمة الأخيرة فقط في حياة السنوار وربطها بالبعد الأسطوري في حياته ليس إنصافا لمجاهد كانت حياته كلها كفاحا وإلهاما، فالصورة الخاتمة الملهمة كانت تتويجا لتاريخ من الإلهام والاستثنائية طبع مسار حياة الشهيد السنوار منذ كان طفلا في مخيم خانيونس يغدو إلى المسجد مع جده حسن، فقد ذكر والده المرحوم الحاج إبراهيم حسن السنوار أن يحيى “كان في طفولته رجلا اهتماماته تفوق اهتمامات أقرانه”.
وفي مرحلة شبابه كان يحيى السنوار بقوته وشجاعته وألمعيته ملهما لكثير من قادة العمل المقاوم من مؤسسي القسام الشجعان أشهرهم القائد العام الأول للكتائب أبو معاذ ياسر النمروطي وعماد عقل وجميل وادي وهشام أبو عامر، والأسير القسامي الكبير حسن سلامة قائد عمليات الثأر المقدس، الذي بلغ ما بلغ من العنفوان والشجاعة والإقدام وحب التحدي بسبب كلمة من السنوار في مسجد الشافعي بخانيونس، وقد ذكر الأسير سلامة ذلك الموقف وما ترتب عليه في كتابيه “الحافلات تحترق”، و”خمسة آلاف يوم في البرزخ”.
في أقبية التعذيب والتنكيل في السجون الإسرائيلية كان صمود السنوار الأسطوري دافعا لأحد “ضباط المخابرات إلى تقديم التحية العسكرية له .. احتراما له ولشجاعته وثقته بنفسه”، وفي المعتقلات كان العقيد والقيادي في حركة فتح سامي أبو سمهدانة يردد أن “السنوار يوزع قبضنة (شجاعة) على فلسطين كلها”، أي أن الشجاعة التي يمتلئ بها إهاب كل فلسطيني مصدرها الرئيسي حسب أبي سمهدانة هو السنوار إجلالا لبسالته وقوة شكيمته.
اعتبر الشيخ المؤسس أحمد ياسين أن انخراط شاب مثل السنوار في حركة حماس فتح عظيم للحركة رغم كثرة العظماء فيها، وهو تقدير لم يكن يحظى به فقط داخل الحركة بل إن رفقاء الأسر من مختلف الفصائل ومن اليساريين مثل نبيه عواضة وشادي الشرفاء رأوا في السنوار قديما قصة إلهام وأسطرة، وقد صرحوا بذلك قبل الصورة الملهمة والجلسة الأسطورية والعصا النموذج التفسيري بفترة.
عظمة السنوار لم تكن فقط في بسالته الأسطورية وإنما في تجرده وإخلاصه وسعة أفقه الاستيعابي للموافق والمخالف، وفي أخلاقه الإسلامية النادرة، وقد وثقها رفقاء القيد والأسر بأسطر من الوفاء والإجلال، فأبو إبراهيم كان في سجون العدو قائدا بحجم وطن وقضية، وصار بعد طوفان الأقصى قائدا بحجم أمة، وبعد ارتقائه الأسطوري أضحى رمزا ملهما للإنسانية السوية كلها.
لم يكن السنوار مجرد قائد عسكري أو سياسي ينطلق من فراغ نظري، فهو صاحب رؤية استراتيجية شاملة للقضية التي شغلته كل حياته، وأشرف من سجنه على توثيق سرديتها من روايات وكتب كما قال الأسير المحرر شادي الشرفا ابن الجبهة الشعبية.
ففي سبيل القضية تعرف السنوار على فلسطين الوطن والناس من رفقاء الأسر كما لم يعرفها أي قائد فلسطيني في تاريخ القضية، وأحاط بالواقع الإقليمي والدولي إحاطة البصير الحازم المؤثر، وعرف عن عدوه كل صغيرة وكبيرة، وهي معرفة إسلامية مقرونة بالعمل والتطبيق، وكان تطبيقها الأكبر يوم 07 أكتوبر 2023، فلم يدرس أبو إبراهيم إسرائيل وأحزابها وسياستها وأمنها ومجتمعها ليقدم عنها المحاضرات والاستشارات بل ليزيلها من الوجود.
المنزلة التي احتلها السنوار في قلوب المسلمين وكل الأحرار تُفسر إسلاميا بالقبول الذي إذا وضعه الله لشخص أحبه كل سوي في الأرض، وسيرة السنوار الجهادية والتعبدية جديرة بتلك المنزلة التي وضعته جنب صلاح الدين الأيوبي والقادة العظام.
سيخلد ويعمق منزلة السنوار في الوجدان الإسلامي المقدس لقيم الفروسية ما صاحب استشهاده من ثورة شعرية فصيحة وشعبية حطمت أرقام القياس في التاريخ العربي المليء بالبطولات والإلهام والشعر، فقد مجد الشعراء في دواوينهم ذلك المجاهد المشتبك الفقير إلا من المآثر الصالحة، ورأوا في سيرته وصورته مثلهم المفقود ونموذجهم المنتظر، وهو نموذج يقدس أهله الفعل والعمل، وإذا أرادوا التهوين من أمر وصفوه بأنه: مجرد نظري.
أما التاريخ باعتباره حقيقة محايدة فإن السنوار قد دخله من بابه الواسع بسيرته وصورته وعصاه وكوفيته، والتاريخ بصفته سردية فإما أن يؤكد المؤكد من العظمة أو أسطرة الرجل أو ينفي المتواتر، والناس تعلم أن الآيدلوجيا لم تتلاعب بشيء في ماضيهم وحاضرهم كما تلاعبت بـ”قلم المؤرخ”، ولم تستوعب أمة الإسلام شيئا كما استوعبت التباين في وجهات النظر لا سيما من الأشخاص مهما كانت قداستهم ومكانتهم.