خاوة" العالم كما يراه يحيى السنوار

إبراهيم الدويري

ظهر يوم السبت، الخامس والعشرين من مارس/آذار 2017، احتشد عدد كبير من قادة وأعضاء حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في المسجد العمري الكبير أحد أقدم المساجد في قطاع غزة، توافد مئات الحمساويين مع غيرهم من الفلسطينيين من أنحاء القطاع لأداء صلاة الجنازة على القيادي في كتائب الشهيد عز الدين القسام مازن فقها، الذي اغتيل مساء الليلة السابقة بأربع رصاصات مكتومة الصوت في مدخل البناية التي يقطن بها في حي تلِّ الهوى.

 

كان مازن فقها الأسير المحرر عام 2011، ملاحقا من قبل الحكومة الإسرائيلية بتهم كثيرة؛ أبرزها دوره في تشكيل وقيادة خلايا حماس في الضفة الغربية. وكان فقها جديرا بهذه السُمعة، فقد عرف الاحتلال بأسه قبل أن يعتقله ويحكم عليه بالسجن المؤبد تسع مرات. وبعد أن تحرر فقها ضمن أكثر من ألف أسير فلسطيني مقابل الجندي الإسرائيلي الأسير  جلعاد شاليط استأنف نضاله هذه المرة من غزة التي أُبعد إليها.

 

انتهت صلاة الظهر التي تخللها دعاء للشهيد، وأعقبها دخول عشرات الملثمين يحملون جثمان فقها ملفوفًا بعلم حماس الأخضر. بوقار وُضع الجثمان أمام الجمع المحتشد لأداء الصلاة والوداع الأخير. كان الحزن هادئًا، حتى بيان كتائب القسام كان متحفظًا، فغابت اللهجة القوية التي تتحدث عادة عن “زلزلة الأرض تحت أقدام العدو”.

 

في الصف الثاني بالمسجد الممتلئ عن آخره، جلس قادة حماس، وفي منتصفهم رجل خمسيني معتدل القامة يبدو للقريب منه ضخم الكراديس، ويتراءى للبعيد نحيفا من غير ضعف، يرتدي قميصا مترددا بين البياض والزرقة فوقه بدلة رسمية من غير ربطة عنق، يغلب اللون الفضي على رأسه ولحيته. لم يكن الرجل سوى الأسير المحرر يحيى السنوار، الذي انتُخب قبل شهر واحد من ذلك التاريخ رئيسًا لحركة حماس في قطاع غزة.

 

كانت عملية الاغتيال تخلصا من مقاوم شرس ورسالة أمنية واضحة للسنوار في بداية مشواره القيادي الجديد، ذات رمزية كبيرة في الصراع الاستخباري بين المقاومة والاحتلال؛ فكأن إسرائيل أرادت استقبال زعيم حماس الجديد بمفاجأة تختبر استعداده للرد، وتؤكد له في الوقت نفسه أن صرامته الأمنية ودهاءه الاستخباري لا يستطيعان منعها من الوصول إلى أهدافها ولو في قعر غزة التي يقود أمنها اللواء توفيق أبو نعيم، الأسير المحرر أحد رفاق السنوار والمقربين منه في قيادة جهاز مجد وفي السجن سنوات.

 

وما إن مُدّد جسد فقها مكشوف الوجه حتى اندفع قادة الحركة لوداعه. هادئًا من غير اندفاع، انحنى السنوار على رفيقه في السجن تسع سنوات، وقبَّل رأسه، قبل أن يبسط كفه برقة على وجهه وينحني أكثر ليهمس في أذنه بكلمات طالت لثوان، نهض بعدها ليؤدي صلاة الجنازة، ويمسح من عينيه دموعًا خرجت من غير تكلف.

 

تُرى، ما الذي همس به السنوار في أذن فقها؟ هل ذكره بعهد بينهما؟ هل وعده بالثأر؟ لا نعلم السر، ولن نعلمه على الأرجح، لكن نعرف أن السلطات الأمنية في غزة ألقت القبض خلال أسابيع على ثلاثة فلسطينيين بتهمة تنفيذ عملية الاغتيال والتخابر مع الاحتلال، وحكمت المحكمة العسكرية بإعدامهم شنقًا ورميًا بالرصاص. خفّ التوتر الإسرائيلي من رد مزلزل بعد أن اكتفى السنوار في ذلك الوقت بإعدام العملاء كما كان يفعل منذ بداية مسيرته.

 

لم يتحمس السنوار حينها للرد المباشر لكن ما حدث بعدها وإلى أن جاء يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 كشف لنا عن شخصية لها تركيبتها الخاصة، تخلّقت في ظلمات ثلاث، من سجن المخيم إلى زنزانة الحبس ثم إلى أكبر سجن مفتوح في العالم: قطاع غزة. ثلاثة سجون صنعها الاحتلال الإسرائيلي وصمم فنونها الإخضاعية التي تنوعت كلها لهدف واحد وهو سحق الفلسطينيين.

 

تتجلى حقيقة السجون الثلاث في الجدران النفسية والثقافية والسياسية، لا المباني العالية الأسوار. وبهذا المعنى، يكون السجن رمزًا، له تجليات في المخيم، والمدينة، وحتى المدرسة! وكل سلطة من سلطات هذه السجون تنتج شكل مقاومتها، وكلما ازدادت السلطة شراسة، ازدادت المقاومة عنادًا، ولعل هذا ما قد يفسر توقيت صعود السنوار لقيادة المكتب السياسي للحركة بعد اغتيال رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية في طهران نهاية يوليو/تموز 2024.

 

وهكذا فكل قوة تحمل في جوهرها عنصر فنائها؛ فحين تتولد المقاومة، تبدو كما لو كانت التصرف الوحيد المتناسب مع هذه القوة والمتصالح مع حركة التاريخ.

 

في المخيم، وفي عتمة السجن، وفي غزة لاحقًا، كان السنوار التعبير الأفصح عن صلابة المقاومة وثراء طرقها، وربما أكثر صورها منطقية. فبينما كان يحيك الاحتلال أدوات التحكم في الزمان والمكان، وتحديد سير الحياة وفق قواعد الانضباط والعقاب في سجونه على اختلافها، كانت شخصية السنوار تنبني وتبني دفاعاتها العنيدة.

 

هنا نحاول أن نفهم المعدن الذي قُد منه القائد الجديد لحركة حماس يحيى السنوار، وعن الذي فعلته سجون الاحتلال في نفس الرجل الذي اختارته قيادة الحركة بالإجماع رئيسًا لمكتبها السياسي بعد أقل من أسبوع من استشهاد زعيمها. نغوص في رحلته بين المخيم والمعتقل والقطاع المحاصر، ونتساءل ما الذي جعله يتصرف على ذلك النحو الذي أذهل السجان؟ وكيف أوقف العالم على رجل واحدة، واستطاع أن يفرض قواعد جديدة للمعركة رغمًا عن المحتل، والعالم كله، أو "بالخاوة"، وهي الإرغام باللهجة الفلسطينية، كما يحب السنوار أن يردد.

 

ربما لم يكن يحيى السنوار، أو أبو إبراهيم كما يُكنى، يعلم بأن الحوار الصحفي الذي يجريه مع مراسلة صحيفة لا ريبوبليكا الإيطالية، فرانشيسكا بوري، التي تدّعي أنها قضت خمسة أيام في ضيافته، سيُنشر على صفحات صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية.

 

لذلك فقد سارع مكتبه وهو رئيس حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في غزة بإصدار توضيح لنفي أن يكون السنوار قد تحدث مباشرة إلى الصحيفة الإسرائيلية، فمصادر حماس تقول إن الصحفية الإيطالية لم تقض سوى زيارتين قصيرتين في غزة، واحدة لترتيب اللقاء، والثانية للحصول على أجوبة السنوار على أسئلتها.

 

لكن الصدى الذي أحدثه الحوار في الدوائر الإسرائيلية كان أكبر من أن يطغى عليه نفي أو توضيح. فقد رسمت بوري صورة شديدة الاختلاف عما كان يتصدر الصحافة، والإعلام، وحتى مناهج الدراسة التي تتناول حركة حماس والمقاومة الفلسطينية في غزة.

 

ففي الحوار الذي لم ينطق فيه السنوار كلمة "إسرائيل"، واستعاض بدلًا عنها بكلمات مثل "الجيش"، أو "حكومة نتنياهو"، أو "الجانب الآخر"، وبالتأكيد: "الاحتلال"، لم يتحدث مطلقًا عن عداء "لليهود"، وكذلك لم يستخدم لفظ "الكيان الصهيوني". ورغم أن موقفًا مثل تجنب ذكر "إسرائيل" قد يجذب نقدًا غربيًّا، فإن ما قاله السنوار كان أهم كثيرًا مما لم يقله.

 

فلأول مرة تقدم الصحافة الإسرائيلية قائد حماس في غزة باعتباره شخصًا يكره الحرب، ويريد السلام، ويسعى للتهدئة وتغيير الواقع إلى الأفضل، ويعترف بتشكيل السجن لشخصيته لكنه لا يتمنى السجن لألد أعدائه، بمن فيهم "أولئك الذين يوقعون بنا مثل قطع البولينغ بينما يضحكون، غير مدركين أن المطاف قد ينتهي بهم بعد 25 سنة في محكمة العدل في لاهاي".

 

نفى مكتب السنوار حديثه إلى الصحيفة الإسرائيلية، لكنه لم ينف أيًّا من التصريحات التي نُسبت إليه. فقد قال إنه لا يريد حربًا أخرى مع إسرائيل، وهو الأمر الذي علقت عليه صحيفة جيروزاليم بوست بالقول إنه ليس جديدًا، فعلى مدار الأشهر التي سبقت الحوار، قالت الصحيفة، إن عددًا من قادة حماس قالوا إنهم لا يسعون إلى حرب أخرى مع إسرائيل، كما أن ممثلي المخابرات المصرية ومبعوثي الأمم المتحدة أكدوا أن مفاوضي حماس كرروا نفس الرسالة: "ما نريده ليس الحرب، بل رفع الحصار عن قطاع غزة".

 

التقط الساسة الإسرائيليون طرف الخيط، وقال محللون إن السنوار يرجو أن يلتفت نتنياهو إليه للحوار بدلًا من رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس (أبو مازن). لكن لم يكن كل الإسرائيليين على قلب رجل واحد، فقد ظلت شخصية السنوار محل دراسة وتحليل لدى إسرائيل.

 

فبعد شهر واحد من الحوار اختبر الإسرائيليون قيادة السنوار في الحادي عشر من نوفمبر/تشرين الثاني 2018، حيث حاولت قوة عسكرية إسرائيلية تابعة لوحدة النخبة "سيرات متكال" تنفيذ عملية سرية في خان يونس، مسقط رأس السنوار، باستخدام سيارة مدنية يقودها جنود بعضهم يرتدي أزياء نسائية. اكتشف القيادي في كتائب القسام "نور الدين بركة" الوحدة، وقتل الضابط المسؤول عنها، فأطلق عليه جنود الاحتلال النار من سلاح كاتم للصوت ليستشهد، قبل أن يطارد مقاومو كتائب القسام وألوية الناصر صلاح الدين، الجناح العسكري للجان المقاومة الشعبية، السيارة التي هرب راكبوها عبر طائرة مروحية كانت تنتظرهم في بستان زيتون قريب.

 

أطلقت المدفعية وسلاح الجو الإسرائيلي، النار للتغطية على انسحاب الجنود، وقتلت ستة فلسطينيين، فردت المقاومة بإطلاق صواريخ لتبدأ موجة اشتباكات استمرت يومين، قبل أن يتدخل المصريون، ويطلب رئيس المخابرات عباس كامل من السنوار وحماس ضبط النفس، والوصول إلى تهدئة. توصل الطرفان إلى وقف لإطلاق النار، أعقبته استقالة وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان، احتجاجًا "على الاستسلام للإرهابيين".

 

لم تؤثر استقالة ليبرمان في قرار تل أبيب المُضي قُدمًا في الهدنة، فقد اقتنع الإسرائيليون أخيرًا بعدم رغبة حماس في الدخول في مواجهة جديدة! وبدت عملية خان يونس كأنها كانت تأكيدًا، لا لقواعد الاشتباك التي يتوقعها الإسرائيليون فحسب، بل للوائح السجن الكبير، التي وُضعت لتنظم الطعام والعمل والمال، وبالطبع: الحرب والهدنة.

 

وهي نفس اللوائح التي تطبقها إسرائيل في قطاعات واسعة من الضفة الغربية. ولعل هذا ما أغاظ ليبرمان، فالاستسلام الذي تحدث عنه كان القبول الإسرائيلي بقواعد اشتباك جديدة، ولوائح مختلفة، تحدد فيها المقاومة طبيعة الرد على الانتهاكات، ويقوم فيها من يمكن وصفهم بنزلاء سجن غزة المفتوح، لأول مرة، بإرباك حسابات عدوهم طويلة الأمد.

 

لكن قادة حماس كانوا قد أتقنوا لعب دور المنضبط بالسقف والحدود. فلم يكن الاقتناع الإسرائيلي نتيجة تصريحات السنوار فحسب، فقد عملت حماس على إرسال رسائل خداعية تؤكد أنه، حتى لو أراد السنوار التصعيد، فلن يستطيع إقناع الحركة بمستوياتها المختلفة ببدء حرب على إسرائيل.

 

كما نجح السنوار في إيهام الاحتلال بأن من يمكن أن نصفهم بنزلاء سجن غزة ملتزمون باللائحة غير المكتوبة التي يعيش بها بنو جلدتهم في الضفة الغربية.

 

ففي تصريح لعضو المكتب السياسي لحماس، صلاح البردويل، قال لمراسل صحيفة لو فيغارو الفرنسية، بعد شهر من انتخاب السنوار رئيسًا للحركة في غزة عام 2017، إن الخط السياسي لحماس هو ما يحكم السنوار وليس العكس، وعقد مقارنة مفاجئة بين السنوار وبين ليبرمان قائلًا: "تذكر ليبرمان، لقد وعد أن يحرق غزة عندما كان في المعارضة، لكنه هدأ تمامًا بعد أن انضم إلى الحكومة وزيرًا للدفاع". وتابع البردويل في ابتسامة ذات مغزى: "يمكنك توقع المثل في حالة يحيى السنوار".

 

في مهرجان تأبين الشهيد نور الدين بركة ورفاقه، وقف السنوار شاكرًا المانحين على دعم الشعب الفلسطيني في غزة، وليعدد كيف استفاد القطاع وأهله وفقراؤه من الدعم الذي وصل غزة، متسائلًا "ماذا ظن العدو حينما سمح بإدخال الدولار والسولار؟ هل ظنوا أننا نبيع الدم؟!" وتابع الرجل مقتبسًا آيات قرآنية على لسان نبي الله سليمان: {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ؟!... ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ}.

لم يصدق الإسرائيليون تهديد السنوار عندما كان عليهم تصديقه.

 

فقد كان تقدير الأجهزة الأمنية أن السنوار يريد التركيز على الحكم لا القتال، وله في السلطة الفلسطينية أسوة حسنة، وهو ما حدا بتلك الأجهزة والجيش إلى تقليل جهود الرقابة على سجن غزة، والاعتماد على التقنيات الكسولة والمجسات الحرارية والإلكترونية لرصد الحركة، بل ونقل الجنود من حدود غزة لحماية مستوطنات الضفة الغربية.

 

رأى المحللون الإسرائيليون في إيران وسوريا تهديدًا وجوديًّا لم يروه في الفلسطينيين، كما قالت المحللة شين آرتزي سرور في صحيفة يديعوت أحرونوت.

 

اطمأن السجان لخضوع السجين، وعزز من ذلك ما تمكن السنوار من فعله عبر وساطة السلطة الفلسطينية، من إقناع الإسرائيليين بإعطاء تصاريح عمل داخل دولة الاحتلال لأكثر من 18 ألف مواطن فلسطيني في غزة ليعملوا هناك باليومية، وهو الأمر الذي أعطى الإسرائيليين انطباعًا آخر عن طموحات السنوار في إدارة غزة، ووفَّر للسنوار كمًّا هائلا متجددا من المعلومات عن الداخل الإسرائيلي وخرائطه.

 

يقول الإسرائيليون إن السنوار كان قد أرسل برسالة مكتوبة في أغسطس/آب، دسها بين أوراق المفاوضات، من كلمتين فقط بالعبرية عبر الوسطاء المصريين إلى نتنياهو يدعوه فيها إلى "مخاطرة محسوبة" مقتضاها التوصل إلى هدنة طويلة الأمد تتنفس غزة فيها الصعداء اقتصاديًّا.

 

خلال هذه الفترة، غابت حماس بشكل واضح عن جولات من القتال تصدرت لها حركة الجهاد الإسلامي، وكذلك اختارت الحركة عدم التصعيد مرات متعددة، كان أبرزها خلال مسيرات الأعلام الإسرائيلية في القدس، التي نظمتها مجموعات يمينية إسرائيلية في ذكرى احتلال إسرائيل للقدس الشرقية بين عامي 2021 و 2023

.

اعتمدت حركة حماس تحت قيادة السنوار في غزة خيار الصبر الاستراتيجي. ففي الوقت الذي كانت فيه قواعد الحركة وكتائب القسام تضغط على قيادتها من أجل الرد، كان السنوار يبشر برد قادم. يقول باسم نعيم، وزير الصحة الأسبق في الحكومة الفلسطينية، وعضو المكتب السياسي لحركة حماس، إن السنوار كان يهيئ الجميع لحدث جلل، ويجيب المطالبين بالتصعيد، بقوله:

"اصبروا، سنوقف الأرض على رجل واحدة".

 

وبينما كانت عيون العالم مشدودة نحو العاصمة القطرية الدوحة لمتابعة مباراة نصف نهائي كأس العالم بين المغرب وفرنسا يوم 14 ديسمبر/كانون الأول 2022، كان السنوار يستعرض فريقه ويمهد أرض الملعب ليسجل أهدافه في مرمى إسرائيل على طريقته المفضلة.

 

ففي خطاب ذكرى انطلاقة حركة حماس الخامسة والثلاثين، الذي أعطته الحركة عنوان "آتون بطوفان هادر!" ولم تنتبه الصحف العالمية لقيمته إلا بعد عشرة أشهر مع هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، بدأ السنوار، فيما يشبه حالة وجد صوفي، يستذكر نعم الله عليه وعلى قادة وأعضاء حركة حماس "الذين كان يتخطفهم الشاباك الإسرائيلي من غرف نومهم"، وها هم اليوم يخوضون معركة المعلومات الأمنية، ويصنعون سلاحهم، ويطلقون صواريخ "دون عد أو حد" لا مجرد قنابل كلام أو رصاص تهديد.

 

وكان آخر ما قرع آذان الإسرائيليين من حديث السنوار تأكيده تهمة تلاحقه، قال إنه يتشرف بها، وهي سعيه لرفاهية أهالي غزة وتمكينهم من العيش الكريم، وهو ما أكد للدوائر الإسرائيلية أن السنوار، وحركته، وفصائل المقاومة، قد ارتدعوا بعد أن أدبهم الحصار والحروب المتتالية.

 

لعب السجين مع السجان، وفاقه براعة ودهاء، ونجح السنوار في زرع فكرة في دماغ نتنياهو عما يريده. أما ما فعله الإسرائيليون في دماغ السنوار، فتلك حكاية أخرى!

 

يحيى السنوار.. سُبك في السجن!

 

عندما تولت الضابطة الكبيرة في جيش الاحتلال أوريت أداتو مسؤولية مفوضة مصلحة السجون في إسرائيل في منتصف عام 2000، كانت السجون الإسرائيلية تضم قرابة 600 أسير فلسطيني، وكان السنوار أحد قادتهم، ولعله كان أخطرهم.

 

بعد أشهر، في سبتمبر/أيلول، ستندلع انتفاضة الأقصى، وخلال الأشهر والسنوات التالية ستعتقل إسرائيل آلاف الفلسطينيين، من بينهم قادة الانتفاضة والفصائل الفلسطينية الذين تتهمهم بقيادة العمليات الفدائية وتنظيم المقاتلين وقتل إسرائيليين، مثل مروان البرغوثي، أمين سر حركة فتح في الضفة الغربية، وعباس السيد، قائد كتائب القسام في الضفة الغربية، الذي تصفه إسرائيل بأنه أخطر أسير فلسطيني لديها، وعبد الله البرغوثي، صاحب أطول حكم في السجون الإسرائيلية، وأحمد سعدات، الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

 

يدعي ممثلو الاحتلال أنهم رأوا الوجوه الجديدة للأسرى أكثر أهمية من يحيى السنوار، رغم أن منهم تلاميذه الذين كانوا بدؤوا العمل في المقاومة تحت إمرته، ولعل ذلك ما دفع إسرائيل إلى التعامل معه بشكل أقل حدة ممن هم في طبقته من الأسرى، خاصة أنه لم يُتهم بقتل إسرائيليين بشكل مباشر، بل فلسطينيين متعاونين مع الاحتلال، الذين هم أقل وزنًا وأخف قدرًا من أي إسرائيلي قد تصيبه المقاومة.

 

تدرك إسرائيل الآن مدى خطل تقييمها، وأن السنوار كان أخطر من يُفرج عنه، لأنه فضلًا عن إيمانه بالمقاومة بكل صورها، فما من أحد من قادة حماس عرف إسرائيل مثلما عرفها السنوار. ولكن يبدو أن السجان الإسرائيلي كان غارقا في فكرة براءة السنوار من دم المحتل، فلم يقرأ شخصيته على حقيقتها.

 

لذلك، عندما بدت على السنوار أعراض مرض خطير، وبدأ الأسرى الفلسطينيون في تنظيم إضرابات مهددين بعصيان قد يقود إلى انتفاضة سجون عارمة بسبب رمزية الأسير المريض، لم ير قادة الاحتلال في علاجه وإنقاذ حياته تهديدًا وجوديًّا.

 

فنظريًّا، مهما كانت الرعاية الطبية التي سيحصل عليها السنوار، لم يكن من المفترض أن يخرج من السجن حيًّا. فقد حُكم عليه بالسجن 451 عامًا، كما أن قتله بالإهمال الطبي سيتسبب في قلق لا داعي له داخل السجون وخارجها، وهو ما كان أكده الشيخ أحمد ياسين في حوار نهاية التسعينات حين تحدث عن قلق السلطات الإسرائيلية من موت الزعماء الفلسطينيين في السجون نتيجة الإهمال الطبي.

 

لعل هذا الخوف هو ما جعل قادة الاحتلال يؤثرون علاج السنوار وتوفير رعاية طبية ملائمة رغم اتهامهم له بالتحريض على خطف جنود وقتلهم، بل وتأسيس الجهاز الأمني للحركة والمساهمة في تأسيس الجناح العسكري الذي قاده كثير من رفاقه وطلابه!

 

في عام 2004، بدأت تظهر على السنوار أعراض ورم دماغي، وبعد فحوصات تقرر إجراء عملية له. يقول يوفال بيتون، وهو طبيب عمل في السجون الإسرائيلية عشر سنوات، قبل أن ينتقل للعمل في الاستخبارات ثم يصبح لاحقًا رئيس شعبة الاستخبارات في مصلحة السجون، إنه كان من بين الأطباء الذين عالجوا السنوار.

 

وأوضح بيتون أن الإسرائيليين أجروا عملية جراحية دقيقة استغرقت سبع ساعات في الطابق الثاني من مستشفى سوروكا في بئر السبع، عاد بعدها السنوار إلى السجن، الذي كان قد قضى فيه بالفعل أكثر من خمس عشرة سنة، ليكمل ما بدأه من عمل مع الأسرى وليتم فترة محكوميته التي لم يبق منها إلا أربعة قرون فقط!

 

لكن ماذا وراء هذه المدد الخيالية التي يحرص الاحتلال على الحكم بها على المقاومين؟ تصرح الضابطة أداتو، التي تولت مسؤولية السجون الإسرائيلية حتى عام 2003، في أحد اللقاءات بالقول إن المحكوم عليهم بالسجن مدى الحياة لا يملكون إلا الوقت الطويل، وهو الذي يسيطر عليه السجان.

 

ورغم أن المسجونين بلا فرصة في الحرية قد يسقطون في هاوية اليأس، وإعادة استكشاف هويتهم، وتقصير آمالهم في المستقبل، لم يكن السنوار كذلك. وحتى نفهم كلام الضابطة، علينا أن ندرك أن السجون الإسرائيلية مصممة كي تنتج روحًا من اليأس والعدمية على مقاس جسد السجين لضمان أن يبقى الأسير مستكينا طيّعا تحت سلطة السجان.

 

دفن الروح الأصلية للسجين، ثم استبدالها بأخرى عدمية يائسة هي أخطر مراحل الأسر، وهنا لا يكون أمام السجين العقائدي سوى المقاومة الروحية، والتمسك بأهداب الأمل، وطالما كان الأمل يقظا عند الأسير يبقى السجان في خطر. وبحسب الضابطة كان السنوار من الصنف المقاوم، وكان أبعد السجناء عن اليأس!

 

سُجن السنوار لأول مرة عام 1982. في هذه المرحلة، أراد الأسرى المنتمون إلى جماعة الإخوان المسلمين التمايز عن المعتقلين الآخرين بالتأكيد على هويتهم الإسلامية، وهو ما أثار غضب الأسرى من منظمة التحرير الفلسطينية، الذين لم يعجبهم أن يُصنف الأسرى خارج إطار المنظمة. اعتُقل السنوار في هذا التوقيت عندما كان في التاسعة عشرة من عمره، طالبًا بغزة، بعد أن سافر بصحبة أعضاء من مجلس طلاب الجامعة الإسلامية، إلى مخيم جنين لزيارة عدد من النساء الفلسطينيات اللاتي تعرضن لمحاولة تسميم من قبل الإسرائيليين.

 

ردًّا على هذه الزيارة، قُبض على السنوار، قبل أن يُفرج عنه نحو أسبوع ليُعتقل مرة أخرى ويوُضع ستة أشهر قيد الاعتقال الإداري بلا تهمة أو محاكمة، وتقول مصادر إن السنوار تعرف في هذه المرحلة على صلاح شحادة، الذي كان مسؤولًا عن عمل الجهاز الأمني في حركة الإخوان المسلمين في غزة في هذا التوقيت، وهو العمل الذي بدأ بسيطا ومركزًا بالأساس على رسائل التوعية الأمنية. ثم تطور عمل الجهاز الأمني، وعاش شحادة ليقود كتائب القسام حتى استشهاده عام 2002.

 

خرج السنوار من السجن ليعود إليه مرة أخرى، ففي عام 1985 وبسبب نشاطاته مع الحركة الإسلامية التي أسسها الشيخ أحمد ياسين، اعتُقل وحُكم عليه بالسجن ثمانية أشهر. وفي هذه المرحلة، حصل على ثقة الشيخ ياسين في السجن كما تعتقد المصادر الإسرائيلية، غير أن الحقيقة التي يرويها نهاد الشيخ خليل، المؤرخ وأستاذ التاريخ بالجامعة الإسلامية في غزة، أن السنوار تمتع بهذه الثقة مبكرًا من خلال عمله في الحركة الطلابية، التي اهتم بها الشيخ وتابع أعمالها بشكل مباشر، وهو ما يؤكده السنوار في روايته "الشوك والقرنفل"، التي كتبها في السجن لاحقًا، ويمكن اعتبارها سيرة ذاتية له في الكثير من جوانبها خصوصا بطلها المسمى إبراهيم.

 

بعد خروجه من السجن، أكد السنوار جدارته بثقة الشيخ أحمد ياسين، الذي كان قد خرج من السجن في مايو/أيار ضمن عملية تبادل بتخطيط من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (القيادة العامة). ورغم أن الشيخ ياسين كان قد صرح للجزيرة بأنه قد ابتعد عن تنظيم الإخوان مدة عام بعد الإفراج عنه، حتى يحيّد عيون الاستخبارات الإسرائيلية التي كانت ترقبه كظلّه، نعلم الآن أنه كلف السنوار بالتعامل مع العملاء.

 

فمن خلال تأسيسه لجهاز الأمن والدعوة "مجد"، الذي تخصص في تأهيل أبناء الحركة الإسلامية أمنيًّا، والإيقاع بالعملاء والمتعاونين مع الاحتلال، استطاع السنوار، وهو بعد في الثالثة والعشرين من عمره، أن يجعل من نفسه رقمًا صعبًا في المعادلة الفلسطينية، وهو ما حدا بالاحتلال إلى اعتقاله للمرة الثالثة والأخيرة في يناير/كانون الثاني عام 1988، بعد شهر واحد من اندلاع الانتفاضة الأولى والتأسيس الفعلي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس).

 

لأكثر من عام، لم يستطع الاحتلال الحصول من السنوار على أي معلومات عن دوره في المقاومة. يقول ميخا كوبي، المدير السابق للتحقيقات في جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي، شين بيت، الذي قضى أكثر من 150 ساعة في استجواب السنوار، أنه أخبره بتفضيله للموت شهيدًا على أن يتكلم!

 

وفي عام 1989، ومع تصاعد وتيرة الانتفاضة، اعتقلت السلطات الإسرائيلية الشيخ المؤسس أحمد ياسين، مع مئات من أعضاء الحركة الناشئة، فتحدث بعض المعتقلين عن دور يحيى السنوار، فأدرك الاحتلال قيمة الصيد الثمين الذي بين يديه. ويدّعي كوبي في تصريحات لصحيفة التايمز البريطانية أنه طلب من الشيخ أحمد ياسين أن يأمر السنوار بالإجابة عن أسئلة المحقق بصدق، وأن ياسين استجاب لطلبه بحسب زعمه.

 

لاحقًا، يزعم كوبي، أن السنوار اعترف بقتل اثني عشر عميلًا لإسرائيل، ويدعي الإسرائيليون أن نص التحقيقات معه يحوي تفاصيل عن الطريقة التي قتل بها السنوار عملاء بأعيانهم وأسمائهم. وفي النص، يقول السنوار إنه بعد أن قتل عميلًا، على سبيل المثال، قام بتكفينه ودفنه، وإنه لم يقتله إلا بعد أن اعترف بجريمته، وبأنه يستحق ذلك المصير جزاء خيانته.

 

في تصريحات أخرى لصحيفة الفاينانشال تايمز، قال ميخا كوبي إن السنوار قتل ثلاثة من المسجونين المتعاونين مع الاحتلال، الذين يشتهرون بلقب "العصافير"، وفعل ذلك بشفرة الحلاقة، وهو ما جعل إدارة السجن تضعه في العزل الانفرادي سنوات عانى فيها السنوار أمراضًا متعددة.

 

لكن تظل شهادة رجل الاستخبارات الإسرائيلي مجروحة، لا لكون السنوار غريمه اللدود الذي يقول إن الإفراج عنه "أسوأ خطيئة في تاريخ دولة إسرائيل" فحسب، بل لأن القصص التي يحكيها عنه لم تقع، وتبدو ملفقة لشيطنة السنوار، وتنقلها الصحف العالمية رغم عصيانها على التصديق، مثل تلك القصة التي يدّعي فيها أن السنوار أمر شقيق أحد العملاء بدفن أخيه حيًّا، ليس ذلك فحسب، بل إنه أجبره على إهالة التراب عليه باستخدام ملعقة طعام! وهي قصة تستدعي السخرية والضحك أكثر مما تدفع إلى الرعب من وحشية السنوار المزعومة، وهو الأمر الذي يؤكده أسرى محررون ومصادر أخرى على معرفة لصيقة بواقع السجون الإسرائيلية.

 

ففي حوار مع الجزيرة نت، قال الأسير المحرر، وعضو المكتب السياسي لحركة حماس، وأحد مؤسسي كتائب القسام، زاهر جبارين، إن الروايات الإسرائيلية عن السنوار والأسرى عمومًا تتراوح بين التشويه والمبالغة. قضى جبارين أكثر من 15 عامًا في السجن مع يحيى السنوار ويقول إنه التقاه لأول مرة في الغرفة رقم 4 في سجن بئر السبع عام 1995.

 

ويوضح جبارين أن الادعاءات الإسرائيلية حول تعامل المقاومة، أو جهاز مجد، مع الذين يُشك في كونهم عملاء للاحتلال أبعد ما تكون عن الحقيقة. لأن الجهاز لم يكن يعمل بشكل فردي، ولم يكن التعامل مع أي مشتبه فيه يؤخذ بقرار منفرد، وإذا حدث خطأ، يُحاسب المخطئ ويُعاقب. "هناك عشر خطوات وأحيانًا اثنتي عشرة خطوة للتحقق من كون الشخص المشتبه فيه متعاونًا مع الاحتلال، وبعدها يُجرى تحقيق من خلال جهاز محترف".

 

وبعد محاكمة لم تطل كثيرًا حاول السجان فيها كسر إرادة السنوار ودفعه إلى الندم، لم يجد القضاة بدا من الحكم عليه بالسجن أربعة مؤبدات بتهمة قتل أربعة فلسطينيين مشتبه في تعاونهم مع الاحتلال، وكان مجموع ما حُكم عليه به 426 عامًا. فماذا كان جواب السنوار؟ دراسة إسرائيل، وإعداد الأسرى، وبالطبع، إكمال عمله في محاربة العملاء!

 

حاصر حصارك، لا مفر!

 

توقف السنوار عن قتل العملاء في السجن، لكنه لم يتوقف عن محاربتهم فقد وجه جهده لتعليم الأسرى كيف يلاحقونهم، ولم يتوقف عن فهم العقلية الإسرائيلية. تفرغ السنوار لدراسة المجتمع الإسرائيلي وقادته ونفسيته.

 

قرأ مذكرات قادة الاحتلال، وتعلم اللغة العبرية، وفضل التحدث بها مع الإسرائيليين حتى لو كانوا يتحدثون العربية، ودرس في الجامعة عبر المراسلة، وتابع الجرائد والأخبار اليومية، و"كان مدمنًا على القنوات الإسرائيلية"، بحسب مسؤول سابق في مصلحة السجون الإسرائيلية تحدث لصحيفة بلومبرغ.

 

بعد خروج السنوار من العملية التي أجراها في 2004، أجرى مقابلة في السجن مع الصحفي يورام بينور من التلفزة الإسرائيليّة، تحدث فيها عن إمكانيّة إيجاد هدنة، وعن إدراكه لقوة إسرائيل النووية. بعد المقابلة أخبر السنوار طبيبه يوفال بيتون، أن على إسرائيل ألا تغتر بقوّتها لأنها كيان هشّ، وقال له "خلال عشرين عامًا ستتصاعد حدة الخلاف بين العلمانيين والمتدينين في المجتمع الإسرائيلي، وستضعف الدولة. وحينها سأغزوكم!" كما يتذكر بيتون.

 

أما رفيقه في السجن زاهر جبارين، فقال لنا إن السنوار لم يدرس الثقافة والفكر والسياسة الإسرائيلية فحسب، بل درس الدين اليهودي، والنصوص التلمودية، وكان على اتصال دائم بالعالم من خلال القنوات التلفزيونية، وتحديدًا قناة الجزيرة التي كان يتابعها باستمرار، وأقبل على القراءة في مكتبات السجن التي تصل إليها الجرائد والصحف والكتب، وعبر الهواتف المهربة للتواصل مع الخارج.

 

كذلك لم يتوقف جهد السنوار في تعليم الأسرى المسائل الأمنية، بل كان يعلمهم قواعد اللغة العربية والنحو وفن الخط العربي، ويقول جبارين إنه كان يعلم الأسرى اللغة العبرية كذلك، وكان يمتاز بحسن توصيل المعلومات.

 

ويصف الأسير المحرر تيسير سليمان، الذي سُجن مع السنوار عامين في النصف الأول من التسعينيات، برنامجه في السجن فيقول إنه كان قارئا نهما ومشغولا دائما بإعداد الكراسات والبحوث الأمنية، وتقديم الدورات لتطوير قدرات الأسرى، حتى المحكوم عليهم بمؤبدات.

 

وقد حضر سليمان دورة أمنية قدمها السنوار، استمرت ستة أشهر، شارك فيها حوالي 40 أسيرًا، تناولت محاور عن "معرفة العدو، وسبل تشكيل الخلايا، وطرق تخزين الأسلحة، ومبادئ المحافظة على السرية التامة للعمل المقاوم، وأساسيات مراعاة العوامل الجغرافية لأماكن تنظيم العمل العسكري".

 

ومن أكثر الأمور لفتًا للنظر، استثمار الأسرى في التعلم داخل المؤسسات الإسرائيلية. فقد أقبل الأسرى، والسنوار أحدهم، على الانضمام إلى برامج الدراسات العليا في الجامعات الإسرائيلية المفتوحة، التي تكلف الدراسة في بعضها 250 ألف دولار، وتساهلت بعض إدارات السجون مع مطالب الأسرى في الحصول على الكتب الدراسية والتعليمية. وكلها حقوق حيزت بعد نضال طويل خاضته أجيال متتابعة من الأسرى في سجون الاحتلال، بحسب جبارين.

 

عادت هذه المعرفة بالنفع على مجتمع الأسرى، بل وعلى المجتمع الفلسطيني بأسره. فقد استخدم السنوار معرفته بالعبرية لتأليف عدد من الكتب وترجمتها في مجالات السياسة والأمن والأدب، مثل ترجمة كتاب "الشاباك بين الأشلاء"، لكارمي جيلون، وهو كتاب يتناول جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي. كذلك ترجم السنوار كتاب "الأحزاب الإسرائيلية عام 1992″، الذي يعرف بالأحزاب السياسية في دولة الاحتلال وبرامجها وتوجهاتها خلال تلك الفترة.

 

كذلك ألف السنوار رواية "الشوك والقرنفل"، وكتيّبا عرف فيه بأحد رفاقه الأسرى الذين نفذوا عملية عسكرية وهو "أشرف البعلوجي"، وهما إسهامان أدبيان منه في جهود توثيق السردية الفلسطينية، وألف كتاب "المجد" الذي يرصد عمل جهاز "الشاباك" في جمع المعلومات وزرع وتجنيد العملاء، وأساليب وطرق التحقيق الوحشية من الناحية الجسدية والنفسية، إضافة إلى تطور نظرية وأساليب التحقيق والتعقيدات التي طرأت عليها وحدودها، وألف دراسة نقدية غير منشورة بعنوان "حماس: التجربة والخطأ"، تناول فيها تجربة حركة المقاومة الإسلامية في العمل الأمني والعسكري بالنقد والتمحيص.

 

وأخيرا بعد طوفان الأقصى وغرام الإعلام الإسرائيلي بتتبع تفاصيل حياة السنوار كشفت كيتي بيري، رئيسة مصلحة السجون الإسرائيلية السابقة أن يحيى السنوار ترجم في سجنه كتابين لرئيسين سابقين لجهاز الشاباك، أحدهما ليعقوب بيري وعنوانه "القادم لقتلك"، والثاني لكرمي غيلون، عنوانه "الشاباك بين الانقسامات"، وجدير بالذكر أن كتب السنوار التي رأت النور أُلِّفت "خاوة" رغمًا عن أنف السجان.

 

و"دأب العشرات لنسخها ومحاولة إخفائها عن أعين الجلادين وأياديهم الملوثة، وبذلوا جهدا جبارا في ذلك، وعملوا عمل النمل لإخراجها إلى النور" كما كُتب على غلاف "الشوك والقرنفل".

 

تشير هذه المؤلفات والممارسات وغيرها إلى أن السنوار كان يتمتع بحالة عالية من الاستقرار النفسي لسجين محكوم عليه بمؤبدات؛ ولذلك فمن غير المبالغة القول إن يحيى السنوار استطاع أن يحاصر سجانيه على وجه من الوجوه، وأن يسيطر على رؤيتهم له، بقدرة ملفتة للنظر.

 

ترتبط هذه القدرة بنظام نفسي تبناه سجناء المقاومة، جعلهم، على نحو ما، يقدمون استجابات نوعية وغير معتادة لدى غيرهم من السجناء الجنائيين أمام سجانيهم وأدواتهم. أهمها قدرة السجين المقاوم على امتصاص الضغوط والأحداث القاسية التي تتوالى عليه، دون أن تنجم عنها آثار نفسية عميقة.

 

بل لعل بإمكان الكثير منهم إنتاج معنى روحي يرشح من كل الآلام التي يمرون بها، يجعلهم يشعرون بالكفاءة الشخصية والندّية العقلية حين ينظرون إلى أنفسهم على أنهم أنداد قادرون على الاشتباك، وإرباك كلّ هذه النظم العقابية، والأجهزة الأمنية، ويفخرون بتصنيفهم أشخاصًا شديدي الخطورة من قبل أعدائهم. تمكنت المقاومة من جعل السجن ضمن استراتيجية لتجذير التحدي بوصف الأسر مرحلة ضرورية لبناء الصلابة النفسية وإعداد الذات وتحضيرها للمواجهة الكبرى.

 

لم يعبأ السنوار كثيرًا بالنظم الداخلية للسجون بقدر رغبته في إظهار الندّية والكفاءة للأعداء والعملاء. وظل ينظر إلى السجن باعتباره صورة مصغرة للمجتمع الإسرائيلي، ورغم طول المدة التي مكثها في السجون فإنه ظل متمسكا بنظرته إلى السجان باعتباره عدوًّا لا موظفًا.

 

فالعلاقة مع سدنة السجون في السياقات السلطوية قد تتذبذب مع تغير الأحوال، كما تتجه بحكم الأنظمة المؤسسية وإجراءاتها اليومية لتصبح نمطا من أنماط التطبيع والمعايشة والاعتياد، أما العلاقة مع العدو، حتى لو كانت متلاصقة ويومية، فلن تعدو كونها فرصة للمعرفة، وهدنة للبحث ودراسة نقاط القوة والضعف. فلأمثال السنوار، يتحول السجن إلى مدرسة، وتغدو أنظمته القسرية تجربة ممتدة لمعرفة كيفية كسر قواعدها.

 

بل أكثر من المدرسة، إذ يجوز القول إن السجن رفيق كل نضال ثوري، وحليف كل صاحب قضية، وقد يغدو السجن جزءًا من استراتيجية المقاومة، لا مجرد مخاطرة ضرورية. وهذه الاستراتيجية تجعل من السجون محاضن تجنيد وتدريب وتربية وإعداد.

 

قال الشيخ أحمد ياسين في حوار مع الجزيرة عُرض نهاية التسعينيات إن السجن قد يكون للمقاوم المؤمن "متعة" في الخلوة والترقي الروحي، بل إن الشيخ كان قد تمنى في حوار مع صحيفة آفاق عربية المصرية في سنوات الانتفاضة الثانية أن يجرب أبناء الحركة الإسلامية جميعًا السجن، كي تُكسر رهبته في نفوسهم!

 

لا يمكن النظر إلى مخاطرة السجن باعتبارها حائلًا دون المُضي في التغيير أو سببًا للتوقف عن النضال، ومهما كان النشطاء أو المقاومون حذقين في أدواتهم ووسائلهم، فإن احتمالات تعرضهم للسجن، أو ما هو أسوأ، تظل حاضرة طوال الوقت.

 

السجن غمد المقاوم .. وأي مهنّدٍ لا يُغمدُ؟

 

تُعتبر السجون الإسرائيلية أحد نطاقات حماس الأربعة الكبرى، بجانب غزة، والضفة الغربية، والخارج. إذ تضم السجون قادة وأعضاء في الحركة، وآلاف المجندين المحتملين، لذلك فقد أدركت الحركة أهمية أن يكون الأسرى ممثلين في مستوياتها المختلفة.

 

وإن لم يكن لأسرى حماس دور جوهري في التصعيد الهيكلي لقادة الحركة خارج السجون، فإن لهم تنظيمًا معقدًا وقيادة منتخبة تشارك في عملية اتخاذ القرار المركزي لحماس، "بشكل استئناسي، إذا سنحت الفرصة" كما يقول طارق حمود، الأستاذ المساعد بجامعة لوسيل القطرية، المتخصص في الدراسات الأمنية.

 

خلال مدة اعتقاله، تولى السنوار قيادة الهيئة القيادية العليا لأسرى حماس في السجون لدورتين تنظيميتين. كذلك نظم مواجهات للأسرى مع مصلحة السجون من خلال سلسلة من الإضرابات للمطالبة بتحسين أوضاع السجناء، شمل ذلك إضرابات أعوام 1992، و1996، و2000 و2004.

 

ومن بين مواقف السنوار النضالية في السجن، التي تحدثت عنها والدته قبل وفاتها عام 2004، ما فعله عندما كان في سجن الرملة، إذ اتفق مع رفيق دربه روحي مشتهى على رشّ وجه مأمور السجن السيّئ المعاملة بالمياه الساخنة.

 

ولأن السنوار كان يعلم أنه سيعاقب مع الأسرى على تلك الحادثة، أعطى توجيهاته بدهن أرضية الممرات والسجن بالسمن والصابون، وبالفعل جاء الجنود لقمع السجناء، فارتبكوا بسبب لزوجة الأرض، ووقعت ملحمة بين الأسرى والسجانين، احتُجز على أثرها يحيى عدة أسابيع في زنازين العزل، ثم أعيد بعد العصيان اليومي الذي كان يقوم به الأسرى مطالبين بعودته إليهم.

 

لكن جهاز الأمن الإسرائيلي الداخلي (الشاباك) كان واعيا بمرامي تلك النضالات التي يخوضها المقاومون وقادتهم، وكان يتلكأ في الاستجابة للمضربين أو معاملة السنوار بطريقة خاصة. ومع ذلك كان السنوار يعرف كيف يقنع الإسرائيليين بالعمل لصالحه، و"لسوء الحظ تعاونت سلطات السجن معه، إذ أراد الجميع أن يظل السجن هادئًا" كما يقول ميخا كوبي، الذي حقق مع السنوار وقت اعتقاله وتابعه عن قرب خلال فترة السجن، وفي إفادة لمسؤول إسرائيلي آخر أنه يمكن القول إن السنوار "هو من كان يدير السجن وليس مصلحة السجون"، وفقا لما نقلت صحيفة معاريف الإسرائيلية.

 

تميز السنوار عن كثير من قادة الحركة بسعيه الدائم لتبني سياسة الاقتراب من قادة الحركات والفصائل الفلسطينية الأخرى من أجل توحيد جهود الأسرى على اختلاف توجهاتهم، إلى الحد الذي أقلق الإسرائيليين الذين انتهجوا سياسة التفريق بين المنتمين إلى حركات المقاومة المختلفة.

 

ففي 2017، نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت صورة قديمة من السجن تجمع السنوار، بأمين سر حركة فتح مروان البرغوثي، وقائد كتائب القسام في الضفة الغربية عباس السيد، وتساءلت عما إذا كان البرغوثي سيخرج ليصبح قائدًا لفتح، مثلما خرج السنوار من سجنه ليصبح قائدًا لحماس.

 

من سجنه، شهد السنوار استشهاد رفاقه من قادة حماس وغيرها، واعتقال زملائه وتلاميذه، وكذلك رأى تحولات القضية الفلسطينية الأهم، مثل توقيع اتفاقية أوسلو، ومذبحة الحرم الإبراهيمي، واغتيال إسحاق رابين، وانسحاب الاحتلال الإسرائيلي من غزة، وفوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية، وسيطرة حماس على قطاع غزة بعد ذلك، وأسر الجندي جلعاد شاليط.

 

وفي السجون الإسرائيلية، التي تنقل بين معظمها، لم يدخر السنوار جهدًا لنيل حريته. فقد حاول الهروب من سجنه مرتين، الأولى حين كان معتقلا في سجن المجدل بعسقلان، والثانية وهو في سجن الرملة، إلا أن محاولاته باءت بالفشل. ففي سجن المجدل، تمكن من حفر ثقب في جدار زنزانته بواسطة سلك ومنشار حديدي صغير، لكن محاولته انكشفت بعد أن انهارت القشرة الخارجية للجدار، فعوقب بالسجن في العزل الانفرادي.

 

وفي المحاولة الثانية في سجن الرملة استطاع السنوار أن يقص قضبان النافذة الحديدية، وأن يجهز حبلا طويلا، غير أنه رُصد في اللحظة الأخيرة. كذلك خطط السنوار لعمليات فدائية من داخل السجن، وهو ما كُشف وحوكم على إثره مجددًا ليضاف إلى حُكمه 25 عامًا إضافية. وقد حُرم خلال فترة سجنه من الزيارات العائلية، وصرح شقيقه غداة تحريره بأن الاحتلال منعه من زيارة أخيه 18 عاما، كما أن والده زاره مرتين فقط خلال 13 عاما قبل تحريره.

 

وخلال فترة اعتقاله، صدر تقييم استخباري إسرائيلي لشخصية السنوار، فوصفه بأنه "قاسٍ، موثوق [لدى رفاقه]، ومؤثر، ومقبول من أصدقائه ولديه قدرة غير عادية على التحمل، يكتفي بأقل القليل، يجيد المكر والتلاعب، ويحتفظ بالأسرار، ويستطيع تحريك الحشود"، وثمة شهادات كثيرة ممن رافقه في السجن تتفق على أنه كان خدوما للسجناء، عطوفا على الشباب والمستجدين في السجن. كما كان بارعًا في إعداد حلوى الكُنافة التي يُتحف بها رفاقه، وأطباء السجن أحيانًا.

 

ظهرت قدرات السنوار الاستثنائية أثناء التفاوض حول صفقة جلعاد شاليط. ففي بداية عام 2010، علم السنوار من أحد محاميه أن حماس تكاد توقع على اتفاق تستثني فيه إسرائيل كثيرا من قادة الأسرى، وتشترط إبعاد كثير منهم إلى الخارج.

 

يروي الأسير المحرر محمد الناعوق أن السنوار قام بالاتصال من الغرفة رقم 11 في سجن بئر السبع، بمسؤول ملف التفاوض في حماس حينها، محمود الزهار، وحدثت بين القياديين مشادة كلامية طالب فيها السنوار بألا يتم اتخاذ قرار الصفقة بالشكل المعروض. كما اتصل السنوار برئيس المكتب السياسي لحماس، خالد مشعل، الذي وعده بإيقاف الصفقة حتى تصل الأطراف إلى ما يرضى قادة الحركة الأسيرة.

 

أما الإسرائيليون الذين كانوا يعرفون منزلة السنوار في حماس، فقد حاولوا الاستعانة به لإتمام الصفقة وفق شروطهم. فقد التقى عوفر ديكل، أحد المفاوضين الإسرائيليين، السنوار في سجن هداريم، وطالبه بالتدخل والضغط على قيادة حماس للإسراع في إتمام الصفقة، لكن السنوار لم يلتفت كثيرًا لذلك. ربما اعتقد ديكل أن السنوار كان متعجلًا الخروج من السجن وفق أي شروط، لكن رد السنوار ولا مبالاته أظهرا أنه لم يكن مستعجلًا، بل كان مستعدا لقضاء محكوميته كلها حتى تُلبَّى مطالبه التفاوضية!

 

تتذكر ضابطة الاستخبارات الإسرائيلية، بيتي لاهات، التي كانت مسؤولة عن التواصل مع أخطر الأسرى، عودة يحيى السنوار بعد العملية التي أُجريت في دماغه.

 

وتقول لاهات، وهي سيدة قصيرة نحيفة ذات ملامح ذكورية -حسب وصف الأسير اللبناني المحرر سمير القنطار لها- إنها لاطفته بسؤال عن مدى استعداده للقبول بالعمل معها، وتغيير مواقفه الجذرية من إسرائيل وإمكانية بدئه صفحة جديدة يتعاون فيها مع الدولة اليهودية بعد أن أنقذت حياته، فرد بالقول إنه ليس مهتمًّا، وشرع في الحديث عما سيفعل بعد أن ينال حريته، وعندما سألته لاهات، التي روت هذه القصة في فيلم وثائقي لاحق، عما إذا كان يدرك أنه لن يخرج حيًّا من السجن، رد السنوار في بشرٍ وثقة "سأخرج في موعدي، والله أعلم بهذا الموعد!".

 

علم الله أن الموعد سيكون صباح الثامن عشر من أكتوبر/تشرين الثاني 2011، عندما وُلد السنوار من جديد، عائدًا إلى غزة ومسقط رأسه في مخيم خان يونس، بطلًا، محمولًا على الأعناق، متحرّفًا لقتال سيغير وجه العالم.

 

عندما وصل السنوار إلى غزة تسمر نظره رامقا التغيرات التي افترشت المدينة الصامدة كان يفهم أنه قبالة سجن جديد ولكن بمعايير مختلفة، كانت الجدران متلاشية ولكن الأغلفة والمعابر والنقاط البحرية مسيجة بمتاريس وكاميرات وأشعة حساسة، للتجسس والمراقبة.

 

وعندما وافته الجماهير بالهتافات والنظر المتشوف للقائد الجديد، كانت مؤهلات التصدر ترسل إشاراتها له على مهل، ودوافع التحول القيادي ترتسم على جبهات المقاومين وتنتظر لحظة الحسم، فالقائد الجديد يعرف إسرائيل العميقة ويعرف فلسطين العميقة أيضا، ويعرف كذلك الأرض الملتبسة التي تتحرك عليها القضية.

 

شهدت شوارع غزة مولد زعيم يمشي مشية "الجدعان" التي يعرفها سكان الضواحي، يلبي وجهه نداء اللقطة المصورة، ويملأ الكادر بالمشهد البصري الذي يناسب اللحظة.

لم تكن غزة التي عاد إليها يحيى السنوار محررًا، هي غزة التي وُلد فيها أو حتى تلك التي تركها حين اعتقلته إسرائيل وهو ابن سبع وعشرين سنة، فعندما لامست قدماه ترابها لأول مرة بعد سنين من السجن، تنبه إلى أنه لم يخرج من ظلمته الأولى، إلا إلى ظلمة أخرى، في سجن كبير مفتوح، لكن مع جيش من المقاومين، وأمل في الفكاك أعظم كثيرًا من أي وقت مضى.

 

المخيم.. ولادة في السجن الأول

 

وُلد يحيى إبراهيم حسن السنوار في التاسع والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول، عام 1962، في مخيم اللاجئين في مدينة خان يونس بغزة. وأطلقت عليه أمه رضا عبد الله السنوار اسم يحيى، تيمنا باسم نبي الله يحيى بن زكريا وتفاؤلًا بأن يطول عمره وأن ينجو من غوائل الموت الذي يحيط بالفلسطيني إحاطة السوار بالمعصم.

 

كانت عائلة السنوار قد نزحت من عسقلان قبل ذلك اليوم بأربعة عشر عامًا، حين كانت العصابات الصهيونية في ذروة عملية التطهير العرقي وتهجير الفلسطينيين من أرضهم، وهي العملية المعروفة بالنكبة.

 

ويمكن فهم الكثير عن شخصية يحيى السنوار بالنظر إلى جذور عائلته ونشأته وطفولته في خان يونس. فأكثر ما يميز خان يونس هو الاختلاط بين أهلها الأوائل واللاجئين الذين هُجِّروا من أراضيهم بعد النكبة. فقد تأسس مخيم خان يونس عام 1949، وضم النازحين الذين هُجِّروا من وسط فلسطين، ومن قرى وبلدات أسدود وبئر السبع وصرفند والمجدل، التي أتت منها عائلة السنوار.

 

وبحسب مصدر تحدث إلينا على شرط عدم ذكر اسمه، وهو ممن عرفوا السنوار وعائلته عن قرب، فإن نمط حياة المخيم تغلب عليها ثقافة الفلاحين الفلسطينيين، الذين هم أكثر من تضرر من الحركة الصهيونية، إذ إن النهب الذي كانت تقوم به العصابات الصهيونية منذ عشرينيات القرن الماضي، أي قبل أكثر من عقدين من تأسيس دولة الاحتلال، كان يركز على المناطق ذات الأراضي الزراعية وآبار المياه.

 

فضلًا عن ذلك، فإن أثر اللجوء في نفسية الفلسطيني ظهر بوضوح في ثقافة أبناء المخيمات الذين مردوا على الثورة والغضب. وهو ما يمكن رؤيته مع تتبع جذور المقاومة الفلسطينية. فتاريخ الثورات والانتفاضات هو تاريخ الفلاحين واللاجئين، ومنهم ينحدر أغلب قادة المقاومة الحاليين.

 

ومخيم خان يونس، يحمل من صفات السجن أكثر مما يحمل من صفات المدينة. فالمخيم يقطنه قرابة 100 ألف لاجئ في مساحة لا تتجاوز نصف كيلو متر مربع، وهو ما يجعله من أكثر الأماكن في العالم اكتظاظًا بالسكان، إن لم يكن أكثرها على الإطلاق. تسيطر العشوائيات على مخيمات اللاجئين، ومخيم خان يونس أحدها، فهو حسبما يصفه أحد سكانه "غيتو بشع بكل تفاصيله" يعتمد معظم سكانه على المساعدات التي تقدمها مؤسسات إغاثة اللاجئين الفلسطينيين مثل الأونروا.

 

نشأ السنوار الطفل الأوسط في عائلة عصامية متدينة رقيقة الحال، إذ كان والده يمتلك بقالة في المخيم. كان يحيى قريبًا من جده حسن، يصحبه إلى المسجد، ووصفه والده وقت الإفراج عنه بأنه كان "في طفولته رجلا، تفوق اهتماماته اهتمامات أقرانه"، ورغم حدة طبعه، لم يكن السنوار مشهورا بالاعتداء على زملائه لكنه "كان محمي الجناب مهيب الحضور مع شيء من قوة الشكيمة" ما زال صديقه مأمون أبو عامر يتذكره.

 

شهد يحيى نكسة 1967 ووعى الهزيمة وهو ابن خمس سنين، وكان والده، الذي توفي عام 2022 عن عمر ناهز التسعين، قد صرح بأن يحيى تأثر بتجربة اللجوء، حيث ترعرع في ظل الاحتلال العسكري الإسرائيلي لقطاع غزة وكانت حياته “مليئة بالعذاب بسبب العدوان الصهيوني. وكان مصممًا منذ طفولته على مقاومة الاحتلال”.

 

درس يحيى في المرحلة الابتدائية في مدرسة الشيخ جميل بخان يونس، وانتقل في المرحلة الإعدادية إلى مدرسة البطل أحمد عبد العزيز، التي سُميت باسم ضابط مصري كان قريبًا من الإخوان المسلمين واستُشهد في حرب فلسطين عام 1948، وهو الاسم الذي حفظه السنوار في وقت مبكر، وصارت حكاياته محور حديثه لأقرانه وأصدقائه.

 

وخلال دراسته الإعدادية بدأ يحيى يرتاد مسجد فلسطين الواقع بين منطقة المشروع والمعسكر بالزعاربة في خان يونس، وفي هذا المسجد حضر دروس الشيخين اللذين انتميا إلى فكر وتنظيم جماعة الإخوان المسلمين، وأخذاه إلى عالم الأدب العربي والشعر وحب النحو واللغة، وهما محمد صيام وسعيد زعرب الذي كان لصلابة شخصيته أثر كبير في طبع السنوار.

 

وفي هذه المرحلة أيضًا، تعرف السنوار على كتابات سيد قطب، وسعيد حوى، التي رأى فيها معاني وسمات تتفق وشخصيته الصارمة ونفسيته الصلبة.

 

تجلت هذه الشخصية الصارمة في تحدي السنوار لنفسه، ورغبته في ارتياد الصعاب. فقد قرر منذ وقت مبكر، لضيق ذات اليد، ولرفضه العمل لدى الإسرائيليين في الأراضي المحتلة، ولاستعداده بذل الجهد، أن يعمل كثيرًا. فعمل منذ وقت مبكر في البناء، والسباكة والدهان.

 

وبحسب أحد الذين عرفوه فإن السنوار "عمل في كل شيء، وهي سمة انتقلت معه في المقاومة، ليعمل في كل أفرعها، السياسية والأمنية والعسكرية والدعوية وحتى الإعلامية".

 

واستمر السنوار في مهنة البناء حتى صار بناء محترفا وتطور دخله وأصبح شريكا لصديقه الذي علمه المهنة، واستأجرا عاملا مساعدا، وبدآ يأخذان مقاولات متوسطة، وبدأت ملامح العصامية في الجمع بين المهنة والدراسة والعمل الإسلامي والطلابي تصنع أبا إبراهيم.

 

في السبعينيات، كان الشيخ أحمد ياسين قد أسس المجمع الإسلامي بغزة، الذي جاء في نشرته التعريفية عام 1981 أن فكرته "بدأت من أجل تركيز كل النشاطات الحيوية للإنسان المسلم حول المسجد، وبذلك تعود للمسجد مكانته التي اندثرت".

 

ما يحرث الأرض غير عجولها

 

لكن العمل الإسلامي في غزة لم يكن بهذه السهولة تحت الاحتلال. ففي النصف الأول من الثمانينيات، كتب المسؤول الإسرائيلي عن المحاكم والوقف الإسلامي، أفنير كوهين، تقريرا عن مساجد المجمع الإسلامي، قال فيه "إن استمرار تجاهلنا للمجمع الإسلامي سيشكل خطرا كبيرا في المستقبل، لذا أوصي بتركيز جهودنا في البحث عن سبيل لدحر الخطر قبل أن يصبح واقعا".

 

حاول كوهين منع بناء المساجد الخاصة في غزة إلا بموافقة أمنية إسرائيلية بعد تقديم تقرير كامل عن أصحاب المسجد والمشرفين عليه، غير أن الاقتراح حُذف من جدول الأعمال بأمر القائد العسكري لغزة إسحاق سيجيف، الذي كان قد عاد للتو من طهران، التي كان يعمل بها زمن الشاه، بعد الثورة الإسلامية عازمًا على احتواء المد الإسلامي في فلسطين بطريقة أكثر خبثًا. فقد حاول استمالة الشيخ أحمد ياسين، بدعوته إلى العلاج في مستشفى إسرائيلي تارة، وبزيارته تارة أخرى، غير أن تلك المحاولات لم تفلح في إضعاف شعبية ياسين، ولم تفضّ عنه الشعب.

 

ومع فشل هذه الطريقة، اعتمدت سلطات الاحتلال اقتراح كوهين، بمنع بناء المساجد إلا بموافقات شديدة الصعوبة، وهو الأمر الذي قاومه الشيخ أحمد ياسين، وتلميذه في ذلك الوقت، يحيى السنوار.

 

فإذا ما أراد شباب الحركة الإسلامية حينها بناء مسجد من غير ترخيص، عملوا بنظام الورديات أيام الجمعة والسبت، حين تكون قوات الاحتلال في إجازة، حتى يكملوه قبل يوم الأحد وعودة القوات إلى عملها. ومن المساجد التي بنيت بهذه الطريقة، بمشاركة فعالة من السنوار، بعض مساجد جباليا، ومسجد الإمام الشافعي في خان يونس، وهو المسجد الذي تربى فيه حسن عبد الرحمن سلامة، الأسير القيادي في كتائب القسام الذي خطط لعمليات الثأر المقدس ردًّا على اغتيال المهندس يحيى عياش في يناير/كانون الثاني 1996.

 

لم يتوقف عمل السنوار على بناء المساجد فحسب. إذ لم تكن هناك أي جامعة في غزة حين أكمل يحيى دراسته الثانوية. كان أبناء ذلك الجيل يدرسون في مصر أو جامعات الضفة الغربية، لكن السنوار كان لديه مبدأ صارم بعدم مفارقة غزة، فقوله: "ما بديش أطلع من غزة"، كان جوابًا دارجًا لكل من نصحه بالسفر لإكمال دراسته الجامعية، متمثلا المثل الشعبي الفلسطيني "ما يحرث الأرض غير عجولها".

 

لذلك، حين قرر السنوار الالتحاق بالجامعة الإسلامية في غزة، ولم تكن سوى مبان بسيطة للمعهد الأزهري الثانوي يدرس فيها طلابه صباحا، وفي المساء يلتحق بها شباب معدودون على هيئة طلاب جامعيين موزعين في ثلاث كليات للشريعة وأصول الدين واللغة العربية.

 

كان على السنوار أن يأخذ حقه "خاوة" مرة أخرى، وينتزع من الاحتلال التعليم الجامعي، فوظف خبرته المهنية في ذلك وشارك شخصيا "في بناء غرف وقاعات الجامعة الإسلامية رغم قرارات الحاكم العسكري آنذاك، الذي كان يمنع البناء في هذه المؤسسة، الأمر الذي أوقعه في إشكالات عديدة من استدعاءات واحتجاز وتحقيق ومن ثم الاعتقال"، كما روى شقيقه حامد السنوار في مقابلة صحفية قبيل صفقة "وفاء الأحرار".

 

خلال هذه الفترة، اقترب السنوار أكثر فأكثر من الشيخ أحمد ياسين، الذي كان شديد الوعي بدور الطلاب في تصوره للتحرير. ويقول السنوار في رواية الشوك والقرنفل، متحدثًا عن الشيخ ياسين إنه "كان يشرف على النشاطات الطلابية في غزة بنفسه، وكان يدعو إليه عددا من الطلاب الناشطين في الجامعة الإسلامية ليتعرف على أوضاع الطلبة، ويطلب منهم الحضور مرة في الأسبوع، وقد دعوا معهم آخرين من الشباب القريبين منهم، ويأتون فيناقش معهم أمور العمل الإسلامي في الجامعة، والتحضير للانتخابات، وكيفية العمل مع الطلاب وأساليب دعوتهم وإقناعهم بالفكرة الإسلامية".

 

نظم الشيخ ياسين الطلاب الذين أسسوا مجلسًا لهم، قاده خالد الهندي، ويحيى السنوار، ويحيى موسى، وإسماعيل هنية، وأسامة المزيني، قبل أن تُغلق الجامعة الإسلامية مع اندلاع الانتفاضة الأولى في ديسمبر/كانون الأول عام 1987. ومن خلال هذا المجلس، نظم السنوار ورفاقه أنشطة وفعاليات عززت وجودهم وسط المجتمع الطلابي.

 

فقد أُقيمت مناظرات عدة، ونواد للنقاشات العامة في ساحة الجامعة، ومن أشهر المناظرات التي أُقيمت في ذلك الوقت، وتحديدا عام 1985 مناظرة ابني مخيم خان يونس يحيى السنوار قائد الكتلة الإسلامية، وغريمه وزميله محمد دحلان رئيس شبيبة فتح، ودارت المناظرة حول الكفاح المسلح، وعدم انخراط الحركة الإسلامية في الحراك المسلح ضد الاحتلال الإسرائيلي. فقد اتهم دحلان المجمع الإسلامي بزعامة الشيخ أحمد ياسين بأنه طابور خامس ومساحة للعملاء، لأنه يعمل بترخيص من الاحتلال، أما السنوار فقد أدان توجه قيادة حركة فتح نحو السلام خاصة فيما يتعلق بالموافقة على المؤتمر الدولي للسلام، والسعي لإقامة كونفدرالية مع الأردن.

 

وعلى المستوى الفني شكل السنوار ورفاقه فرقا مسرحية لتنمية مهارات الهواة في هذا الباب. ففي مطلع الثمانينيات تأسست في مدينة خان يونس فرقة للفن الإسلامي على يد مجموعة من الشباب يقودهم يحيى السنوار، بتوجيه ومباركة من الشيخ أحمد ياسين، ركزت على المسرح بشكل كبير، وأطلقت الفرقة على نفسها اسم ’’العائدون’’، وقد انضم إلى هذه الفرقة أعضاء من حماس، سيصبحون فيما بعد أهم قادتها.

 

ركزت فرقة "العائدون" على المسرح السياسي والوطني. وكان من بين المسرحيات التي قدمتها مسرحية "المهرج"، وهي من أبرز المسرحيات التي عرضت في تلك الفترة. وجدير بالذكر أن محمد دياب المصري كان قد لعب دورا محوريا في تمثيل مسرحية "المهرج"، ومنها أخذ كنيته المشهورة "أبو خالد"، وبها يُعرف قائدًا عامًا لكتائب القسام حتى اليوم.

 

إعلان الحرب على العدو القريب

 

في منتصف الثمانينيات، وعقب خروج الشيخ أحمد ياسين من السجن، أوعز يحيى السنوار ورفيقه خالد الهندي للشيخ بتولي مسؤولية جهاز الأمن داخل الحركة وتفويضهم لإدارته. ورغم اعتراض الشيخ مبدئيًّا، خاصة بسبب تشديد الرقابة عليه مع كونه حديث عهد بالسجن، واختياره الانقطاع عن أي مسؤوليات تنظيمية، فإنه في مستهل 1986 أمر الشيخ ياسين السنوار والهندي بتجنيد عناصر موثوق بها تساعد على جمع المعلومات والعمل الأمني الجديد، فرشح السنوار صديقه روحي مشتهى والتقوا ثلاثتهم عند الشيخ ياسين وأفهموا العضو الجديد المهام المنوطة به.

 

كان من أعمال الجهاز إعداد دراسات أمنية وتوزيع منشورات على أبناء الجهاز والحركة تتعلق بشبكات العملاء، والإسقاط الأخلاقي والأمني، ثم برزت ضرورة صياغة منشورات أمنية للشارع بهدف توعية الشباب والفتيات بأساليب الإسقاط والتجنيد لصالح الإسرائيليين، ووزعت هذه البيانات في كافة المناطق، وبخاصة في مناطق التجمع في الجامعة والمدارس.

 

ولتزايد المعلومات المرصودة عن الاختراق الأمني الإسرائيلي لغزة وحجم المعلومات التي جُمعت عن العملاء، احتاج الجهاز إلى إنشاء قوة خاصة تقوم بمناهضة مشاريع الإسقاط بالقوة وردع أصحابها، فتم تشكيل أربع مجموعات بمثابة قوة عسكرية خاصة، وأطلق على الجهاز الناشئ اسم منظمة الجهاد والدعوة "مجد".

 

وخلال هذه الفترة، نظم الجهاز دورات أمنية مكثفة لحوالي ثلاثين شابا في القطاع "لكسر حواجز الرهبة ولتطوير القدرات الشخصية وتنمية الحس الأمني، وبرز من الثلاثين متدربا على مستوى القطاع الشهيد عماد عقل وغيره من رموز المقاومة"، كما يروي أستاذ التاريخ زكريا السنوار عن شقيقه يحيى.

 

ومع دخول مارس/آذار 1987 بدأت عمليات الرصد المكثف للعملاء بهدف خطفهم والتحقيق معهم، ويقول السنوار إنهم حصلوا على معلومات مكثفة صوتيا وكتابيا. ومع تميز "مجد" في عمله الأمني وقدرته على جمع المعلومات ومعرفة مداخل ومخارج العملاء أنيطت به مهمات أخرى مثل ترتيب اجتماعات الهيئة القيادية للحركة، وتنفيذ قراراتها المتعلقة بطبع المنشورات وتوزيعها. وكان أعضاء الجهاز يستخدمون صناديق التبرعات في المساجد نقاطًا ميتة لتبادل الرسائل الأمنية بين الخلايا الميدانية والقيادة.

 

لكن نفوذ الجهاز وقيادته لم يكن دومًا محل ترحاب من أعضاء الحركة. ففي ديسمبر/كانون الثاني 1986، تعدى السنوار أحد القادة الميدانيين في خان يونس، واتخذ قرارًا ببدء مواجهات مع قوات الاحتلال بلا تنسيق مع القيادة، وهو ما اعتبرته الهيئة الإدارية العليا للحركة تجاوزًا غير مقبول، لكن الشيخ أحمد ياسين حمى تلميذه وغفر له تجاوزه المؤسسي وألجم منتقديه إلى حد بعيد.

 

وفي 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 1987، قررت قيادة الحركة الانتقال إلى الخطوة الثانية وهي بدء العمل المسلح ضد الاحتلال. وكانت تلك خطوة استشرافية لما وقع بعد ذلك بثلاثة أسابيع من اندلاع الانتفاضة الأولى. ففي مساء التاسع من ديسمبر/كانون الأول، اجتمع الشيخ أحمد ياسين بعدد من الرجال الذين جاؤوا إليه من المناطق المحتلة في منزل بمخيم الشاطئ شمال قطاع غزة، يتناقشون فيما سوف يفعلونه بعد أن قتل الاحتلال أربعة عمال فلسطينيين في اليوم السابق، ثلاثة منهم من مخيم جباليا للاجئين.

 

وخلال ساعات قليلة، كانت المظاهرات تعمّ قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية ومناطق أخرى داخل الأراضي المحتلة عام 1948. من قلب مخيم جباليا إلى كل فلسطين، بدأت الانتفاضة الأولى. وعلى بُعد آلاف الأميال، من منفاه في تونس، كان الزعيم الراحل ياسر عرفات يراقب المشهد، ويحاول تصدير منظمة التحرير الفلسطينية لقيادته عبر التنسيق مع القادة على الأرض من خلال مكاتب المنظمة في عمّان وتونس، لضمان ألا تنجرف الانتفاضة إلى العنف.

 

أما الشيخ ياسين، والرجال الذين تجمعوا في ذلك المنزل حينها، فقد أدركوا اللحظة الفارقة التي كانوا قد أعدوا لها عدتها، وخلال أيام، في الرابع عشر من ديسمبر/كانون الأول، وزع أتباع الشيخ ياسين منشورًا جاء فيه: "ألا فليعلم المستوطنون المستهترون أن شعبنا عرف ويعرف طريقه -طريق الاستشهاد وطريق التضحية... وليعلموا أن العنف لا يولد إلا العنف، وأن القتل لا يورث إلا القتل، وصدق القائل: وأنا الغريق فما خوفي من البلل". كان هذا هو البيان الأول الذي أثار صدى واسعًا في إسرائيل، وكان التوقيع: حركة المقاومة الإسلامية، من غير الاختصار الذي ستُعرف به في أصقاع الأرض الأربعة: "حماس".

 

بعد خمسة أسابيع فقط، سيُعتقل يحيى السنوار، ليقضى ثلاثة وعشرين سنة في السجون، قبل أن يعود إلى غزة الجديدة.

 

العودة من الموت مرتين

في يناير/كانون الثاني 2011، نظمت وزارة الداخلية الفلسطينية في غزة دورة تدريبية لـ400 ضابط، استمرت لمدة ثلاثة أشهر، وأُطلق عليها دورة يحيى السنوار، وفاء للأسرى وقادتهم وتقديرًا لبطولاتهم وتضحياتهم، ولجهود السنوار خصوصًا. في ذلك الوقت، كانت المنطقة تشتعل، فقد استقال الرئيس التونسي زين العابدين بن علي وخرج بطائرته إلى السعودية، كما اندلعت مظاهرات في مصر تطالب برحيل رئيسها حسني مبارك، وكان يحيى السنوار في زنزانته يراقب كل ذلك عبر الشاشات والجرائد.

 

رأى قادة المقاومة في التغيرات الجذرية في المنطقة، فرصة هائلة. وفي مصر لم يلبث الإخوان المسلمون، الجماعة الأم لحركة حماس، طويلًا قبل أن يصعدوا إلى دوائر النفوذ والسلطة. وعلى الجانب الآخر من الحدود، في غزة، وتحديدًا في خان يونس، مسقط رأس السنوار، ومنطقة لواء كتائب القسام الذي يقوده أخوه، محمد السنوار، كان جنود المقاومة يحتجزون أهم أسير إسرائيلي يراهنون عليه، جلعاد شاليط.

 

خاضت حركة حماس مفاوضات تبادل صعبة، لكن تمكن المقاومون من فرض شروطهم، أو الكثير منها، ولم يجد القادة الإسرائيليون بُدًّا من إعطاء الفلسطينيين بعض ما يطلبون.

 

تقول مفوضة مصلحة السجون السابقة في إسرائيل، أوريت أداتو، إنها عارضت بشدة صفقة "وفاء الأحرار"، التي أُفرج بموجبها عن السنوار، لكن الرأي الذي ساد وقتها، هو أن يد السنوار ليست ملوثة بدم إسرائيلي، بل عملاء فلسطينيين، كما أنه قد شارف على الخمسين من عمره، وهو ما يعني أنه لن يعود قادرًا على القيام بنفس الأدوار التي كان يؤديها قبل اعتقاله.

 

خلص القرار الإسرائيلي إلى السماح بالإفراج عن السنوار، ضمن 1027 فلسطينيًّا سيُطلق سراحهم مقابل شاليط. ورغم أن الاحتلال طلب من كل المفرج عنهم أن يوقعوا تعهدًا بعدم حمل السلاح ضد إسرائيل، فلم يوقع السنوار، ولم يستطع الاحتلال إبقاءه في السجن. فأُفرج عنه في أكتوبر/تشرين الأول. وكما عاد السنوار من الموت المحقق بالمرض العضال، عاد من الموت المحقق في السجن إلى غزة.

 

سيخرج السنوار، وسيقول لمفاوضي حماس إنه كان عليهم أن يضغطوا من أجل الحصول على مكاسب أكثر. مستشعرًا المسؤولية عن الإفراج عن رفاقه في السجون، إلى حد أنه بعد أسبوع من إطلاق سراحه، سيخبر وكالة صفا برس الفلسطينية "أن الخيار الأفضل لتحرير السجناء المتبقين في الداخل هو اختطاف المزيد من الجنود الإسرائيليين". لكن باسم نعيم يقول إن السنوار أدرك بعد وقت من تحريره أن الوضع في غزة أكثر تعقيدًا مما كان يعتقد، وهو ما جعل نقده لمفاوضي حماس يختفي لصالح التجهيز لعمليته الكبرى بعد ذلك باثنتي عشرة سنة!

 

في اليوم الذي عاد فيه السنوار إلى بيته، التقى عددًا كبيرًا من المهنئين، لكن مساعده حينها، ابن أخيه، صقر، ذهب إلى أحد أصدقائه الحضور ليخبره أن أبا إبراهيم يريد لقاءه بعد يومين في صلاة العشاء.

 

سيعود الصديق إلى صديقه بعد يومين، ليجد السنوار في انتظاره باشّا، وليبدآ في تذكر الأيام الخوالي. وبعد دقائق، سينظر السنوار إلى رفيقه، أستاذ العلوم السياسية بعمق، ويقول: "بدي أكسر السلك يا أبا فلان!". يعني أنه يريد أن يقتحم إسرائيل، فيرد الصديق كما ينبغي لأكاديمي أن يرد: "لن يسمح لك أحد في النظام الدولي"، ليجيب السنوار سريعًا وبصوت حانق، وبلهجة فلسطينية محببة ننقلها بالفصحى، "ليخسأ النظام الدولي! ولتخسأ كل الدول، بدي أكسر السلك، خاوة!" لقد خطط يحيى السنوار، والآن وقت التنفيذ!

 

لم تكن هذه رؤية السنوار وحده. فقبل ذلك بأعوام، خرج الشيخ أحمد نمر حمدان، أحد القيادات الدعوية لحماس، في جنازة أحد الشهداء عام 2007 وقال: "القائد أبو خالد الضيف يخبركم، بأن اليوم نغزوهم ولا يغزونا!".

 

ومع التحولات التي شهدتها مصر في عام 2011، وحصول الإخوان المسلمين على أغلبية أعضاء البرلمان ثم مقعد الرئاسة، أرادت حماس أن تؤكد تبعيتها للجماعة، فقام الشيخ عبد الفتاح دخان، أحد مؤسسي الحركة، بقراءة نص البيعة للمرشد العام لجماعة الإخوان على منصة الاحتفال بذكرى انطلاق حركة المقاومة الإسلامية، ليردد وراءه عشرات الآلاف بيعة على السمع والطاعة في المنشط والمكره.

 

كانت الأوضاع قد تغيرت إلى حد ما على المستوى الإقليمي بالنسبة لحماس، فقد كان رئيس مكتبها السياسي، خالد مشعل، قد قرر نقل مقر إقامته وقيادة الحركة من دمشق، في أعقاب الرد الدموي لنظام بشار الأسد على المطالبات الشعبية بالإصلاح والتغيير. لكن حماس حافظت على تصريحات معتدلة، كما أن علاقاتها بطهران لم تنقطع، وإن كانت قد توترت كثيرًا.

 

الإصلاح من الداخل

 

خلال أشهر، انتُخب يحيى السنوار عضوًا في المكتب السياسي لحماس، ليكون مسؤولًا عن الجناح العسكري للحركة. أُطيح بحكم الإخوان المسلمين في مصر، لتجد حماس نفسها في مأزق جديد، بعد أن غُيّب الرئيس محمد مرسي وضُغط على حلفائها في الدول الداعمة الأخرى، وليجد السنوار، على الجانب الآخر، فرصة لتقديم نفسه كوجه جديد، وهو الذي لم تشب تاريخه شائبة الاختلاف مع فرقاء الوطن، ومع الحلفاء التقليديين للمقاومة، سواء في النظام السوري أو الحكومة الإيرانية.

 

في ظل هذه الظروف، سيبدأ السنوار الترقي التنظيمي داخل حماس، وهو صعود طبيعي بعد أن كان قد وصل إلى قمة الهرم التنظيمي في قيادة الحركة الأسيرة قبل تحريره. وسيعمل على إصلاح الهيكل الانتخابي في الحركة، ليضم قرابة 30 ألفًا من أفراد كتائب القسام، الذين كانوا خارج معادلة انتخابات المكتب السياسي، لينتهي الفصل بين السياسي والعسكري في الحركة.

 

يرى بعض أعضاء حماس أن ما قام به السنوار كان إصلاحًا جوهريًّا احتاجت إليه المقاومة، خاصة مع تولي أعضاء كتائب القسام مسؤوليات دعوية وتربوية واجتماعية في الجهاز التنظيمي لحماس، وهو ما اختلف معه بعض المحللين الذين وصفوا حماس بأنها تحولت لتصبح الذراع السياسي لكتائب القسام، وليس العكس.

 

ويقول زاهر جبارين، الذي يتولى الآن مسؤولية ملف الأسرى ضمن مهام أخرى في قيادة حماس في الضفة الغربية، إن السنوار رأى أن المكتب السياسي وقيادة الحركة يجب أن يكون جلهما من الشخصيات الصلبة، التي جربت الأسر وعرفت الإسرائيلي عن قرب.

 

يرى السنوار، بحسب باسم نعيم، أن التفرقة بين السياسي والعسكري لا تصلح لتفسير حالة المقاومة الفلسطينية، كما أن التفرقة بين المدني والعسكري لا تصلح لتفسير مجتمع الاحتلال الإسرائيلي.

 

"إن كلمة مقاوم تذيب هذه التفرقة، فالمقاومون جزء من الحياة المدنية، والاجتماعية، والسياسية، للحركة" ويتابع نعيم قائلًا إن حماس لا تريد بناء جيش منفصل عن الشعب، بل أن تتوزع فكرة المقاومة في كل بيت فلسطيني، وبهذا لن يستطيع الاحتلال تصفية المقاومة بالقضاء على تنظيم أو فصيل".

 

لذلك نجدنا مندفعين نحو القول إن عقل السنوار تفطن إلى أن جزءًا رئيسيًّا من نجاح الاحتلال في الحفاظ على مكتسباته ومضاعفتها عبر العقود الماضية، كان في الدمج الكامل بين المدني والعسكري في المجتمع الإسرائيلي، ولذلك فقد حرص زعيم حماس على أن تكون بنية الحركة قريبة من شكل مجتمع الاحتلال. والحقيقة أن بنية حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، تستلهم من تجربة المسلمين التاريخية، خاصة مجتمعات الثغور والمرابطة، قريبة الشبه بمجتمع الفلسطينيين في غزة، وهي تلك البقاع القريبة من مناطق الصدام والصراع.

 

وبحسب أحد الباحثين المختصين في التاريخ الإسلامي، فقد عاش العرب والمسلمون قرونًا طويلة في مجتمعات الرباط والثغور حياة بينية عسكرية ومدنية، يؤثثون بيوتهم بما ينامون عليه، وما يلبسونه، وما يحاربون به. فكان "المجاهد" هو المسلم في كل مكان، يحمل سلاحه استعدادًا للدفع أو للطلب، وهو ما صعّب كثيرًا من مهمة الغزاة والمحتلين عبر العصور. بل إن دولة كاملة للمسلمين سُميت بدولة "المرابطين". فمن ذا يقدر على أن يُخضع جيشًا هو كل الشعب؟

 

وقد ظهر ذلك في آراء الإخوان المسلمين الفلسطينيين منذ وقت مبكر، إذ نقل المؤرخ نهاد الشيخ خليل من بنود رؤية الحركة لتحرير فلسطين ما ينص على أن "القيادة السياسية تنبع من ميدان الجهاد لا من المكاتب والدهاليز". وبعد انتهاء حرب يوليو/تموز 2014، ستقول صحيفة الرسالة التابعة لحماس في غزة إن السنوار كان الشخص المسؤول عن التواصل بين الجهازين العسكري والسياسي أثناء معركة العصف المأكول التي أطلقت عليها إسرائيل عملية الجرف الصامد.

 

خلال هذه الفترة، بين عامي 2013 و2017، بدأت الضائقة المالية التي تعرضت لها حماس واشتدت لاحقًا. لذلك اتخذ السنوار قرارات صعبة، قلصت من ميزانية الحركة، وحكومتها، وتحديدًا جهازها الإعلامي والتعليمي (في الجامعة الإسلامية على سبيل المثال).

 

وبحسب مصدر مطلع، أعطت حماس في ميزانيتها الأولوية للإنفاق العسكري، وحاولت الحكومة تعويض النقص بطرق أخرى. مثلًا، فرضت الحكومة زيادة في الضرائب على الفواكه والبضائع والسلع في غزة، وأضافت بعض القوانين التنظيمية التي فرضت غرامات مالية على مخالفات القيادة، وهو ما لم يكن معهودًا في القطاع.

 

كذلك حاول السنوار تحسين العلاقة بالفصائل الفلسطينية الأخرى، وحركة فتح وقيادتها، فالتقى محمد دحلان في القاهرة، وضغط من أجل التقارب مع السلطة الفلسطينية بشكل لم يكن معتادًا لدى قيادات حماس. تكلل هذا التقارب بالاتفاق على دفع ديات ضحايا انقسام عام 2007 لعائلاتهم، بواقع خمسين ألف دولار لكل عائلة، في محاولة لرأب الصدع بين فتح وحماس.

 

استمرت غزة في عهد قيادة السنوار في القطاع منطقة محاصرة تقودها حركة مقاوِمة أولويتها الأولى مناهضة الاحتلال وليس الانخراط في برامج أسلمة راديكالية أو بسط قواعد أخلاقية صارمة، مكتفية بنزعة شعبية محافظة، ومحاصرة الجرائم الأخلاقية. كذلك لم تقم حماس بمعارضة أو تغيير أي قوانين مدنية أو جنائية أقرتها السلطة الفلسطينية، في ضوء الشريعة الإسلامية. وفي أحد خطاباته التي ألقاها خلال الأعوام الأخيرة، قال السنوار عن معركة تحرير فلسطين، إنها ليست حربًا دينية، أما إذا أراد الإسرائيليون تحويلها إلى حرب دينية، "فإننا مستعدون".

 

ويؤكد مصدر قيادي في حماس على وجود هذا الوعي في كل مستويات الحركة، ولا سيما قيادتها، والسنوار تحديدًا. فلا ترى حماس نفسها باعتبارها دولة كاملة المؤسسات والهيئات وتحيا حياة طبيعية على أرضها، ولذلك، يقول المصدر أنه من هذا المنطلق رفض السنوار التجاوب مع دعوات واتخاذ قرارات تعنى بتطبيق بعض أحكام الشريعة أو التدخل في مساحات المواطنين الخاصة، أو التضييق عليهم بدعوى تولي الحركة مسؤولية قيادة القطاع.

 

ويوضح القائد الذي تولى مسؤوليات حكومية في السابق: "لقد رأينا ما حدث في إيران من احتجاجات شعبية للمطالبة بإلغاء قوانين الحجاب الإلزامي، وهي الاحتجاجات التي كان يمكن أن يكون لها تأثير هائل على الحكومة الإيرانية"، ويتابع قائلًا: "نحن سلطة أمر واقع، وحتى السنوار لم يكن يسعى للاحتفاظ بمسؤوليات السلطة والحكم في غزة، وكان يسعى لأن تتولى جهات فلسطينية أخرى إدارة قطاع غزة".

 

رفضت حماس تسرب أفكار تكفيرية داخل القطاع، ولو من بوابة المقاومة، وتعاملت بحزم مع كل الحركات التي سارت على نهج السلفية الجهادية مثل تنظيم القاعدة أو تنظيم الدولة الإسلامية. تعاملت حماس بحسم شديد مع أصحاب هذه التوجهات إلى الحد الذي قاتلت فيه بعض الجهاديين الذين قرروا السيطرة على مسجد في رفح، وقتلت قائدهم عبد اللطيف موسى في 2009.

 

عاش السنوار في غزة محافظا على نظام وروتين صارم، وكان قليل النشاط الاجتماعي، لأسباب أمنية بالطبع، لكن إذا أردت لقاءه في أوقات السلم، فليس عليك إلا أن تصلي الفجر في مسجد حسن البنا أو مسجد الرحمة في خان يونس، قبل أن تراه ينطلق ليجلس بالقرب من البحر للتأمل والتفكير.

 

ويعني هذا ثقة السنوار القوية في الحاضنة الشعبية للمقاومة. وعلى الرغم من التصور عن انغماسه في السياسة، وحرصه على أمنه الشخصي، يقول مقربون منه إنه ملتزم بأوراد يومية لا يسمح لأي شئ بتعطيلها، و "يعتبرها حصنه الحصين."

 

كما بنى السنوار على إرث الشيخ أحمد ياسين في تفعيل أدوار المساجد، ومراكز القرآن، وعمل على تحسين علاقاته بقادة العشائر ومخاتير القطاع من أجل تعزيز التفاهم بين المقاومة والمواطنين.

 

وهو الأمر الذي أثبت نجاعة هائلة في التكتم على التخطيط لهجوم طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وفي التفاف الشعب حول المقاومة وتكرار ممثليه تأكيدهم على ولائهم للمقاومة رغم الإبادة والحصار.

 

الرصاصة الأخيرة

 

من المخيم إلى السجن، ومن السجن إلى المخيم، هذه هي الثنائية التي صبغت حياة يحيى السنوار منذ مولده، جسّد المخيم انفتاح السنوار على فلسطين بكل مكوناتها، ومثّل السجن فرصة له لتعرية المجتمع الإسرائيلي وفهم تركيبته.

 

ليس بإمكاننا التكهن بسهولة بمصير شخص بعينه إذا ما نشأ في المخيم أو قضى أوقاتًا في السجن، فالمخيم قد يجمع الشيء ونقيضه، والفكرة وعكسها، ويحيى السنوار ومحمد دحلان.

 

فمثلًا، أشار مصدر فلسطيني مطلع، إلى أن السلطات السورية كانت قد لاحظت في وقت مبكر أن مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في دمشق، يضم أعلى نسبة نشاط ثقافي في البلاد، وفي نفس الوقت، خرج من المخيم أعلى نسبة للسجناء الجنائيين في سجن دمشق المركزي.

 

وبحسب طارق حمود، فإن المخيم، بشكل عام، يشبه السجن إلى حد لا يمكن تجاهله، فمن الممكن أن ترى شخصًا في المخيم يعمل خياطًا يحيك خيوطه بدقة جراح، لتكتشف أنه كان خبيرًا في صناعة المتفجرات قبل أن يُعتقل لفترة طويلة ويعود إلى المخيم. لا يمكن أن تجد رابطًا بهذا الوضوح سوى في المخيم.

 

ولأن الميدان، في الجامعة والمخيم والسجن، كان مدرسة السنوار الأولى والأخيرة، انعكس ذلك على شخصيته. يقول طارق حمود إن السنوار، لأنه صنيعة الميدان، قد يكون من أكثر قادة حماس واقعية.

 

"صنع الميدان شخصيتين للسنوار، الأولى براغماتية، بسبب كونه من أكثر الأعضاء احتكاكًا بالواقع، واحتياجاته، وإكراهاته، وكذلك لقربه من الفصائل الأخرى قيادة وأعضاءً". ويتابع حمود قائلًا إن هذا ما جعل حسابات السنوار الميدانية ذات دقة هائلة.

 

أما الشخصية الأخرى التي صنعها الميدان من السنوار، فهي الشخصية الأمنية التي ترى العالم كله في ميدان القتال، وقد لا تستطيع الفكاك من هذه النظرة، وهو ما يعني أنه في الوقت الذي قد تكون فيه حسابات السنوار الميدانية ذات دقة هائلة، فإن حساباته السياسية التي ترتبط بموازين القوى الإقليمية والدولية قد تكون محدودة، أو ليست على نفس الدقة، في أفضل الأحوال.

 

ويختلف مع حمود، وزير الصحة الأسبق باسم نعيم، الذي عرف السنوار عن قرب، إذ يعتبر السنوار من أكثر قيادات الحركة قدرة على استشراف المستقبل، ومن أكثر القيادات إدراكا للواقع الإسرائيلي والإقليمي والدولي، كما أن لديه قابلية عالية للتعلم وتطوير النفس بشكل مستمر، وهو ما انعكس على أدائه في قيادة الحركة وقراراته الكبرى، ومنها قرار تنفيذ هجوم السابع من أكتوبر.

 

أما من جهة الواقعية، فظهرت في توجه السنوار نحو المصالحة الوطنية بمجرد وصوله إلى قيادة الحركة في غزة عام 2017، وهو الأمر الذي لا يمكن النظر إليه في إطار المناورة. إذ أعادت الحركة في مايو/أيار 2017، بعد ثلاثة أشهر فحسب من تولي السنوار مسؤولية قيادتها في غزة، صياغة وثيقة مبادئها وسياساتها لتقطع أي صلة بالإخوان المسلمين، وتعلن انضمامها للتوافق الوطني الفلسطيني حول إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس، على حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967.

 

ورغم أن الأفكار التي تضمنتها الوثيقة حصلت على إجماع نادر داخل المؤسسات القيادية لحماس عند إقرارها بحسب طارق حمود. ورغم أن قيادة الحركة، وتحديدًا رئيس مكتبها السياسي في ذلك الوقت خالد مشعل، كان يحاول الدفع بهذه التعديلات منذ وقت طويل لإقرارها، فإن اتفاق السنوار معها علنيا، وظهوره في المؤتمر الصحفي الذي خُصص للإعلان عنها رغم حديث بعض المقربين منه عن اعتراضه على بعض تعديلات الميثاق، يشير إلى أنه كان مستعدًّا لتقديم تنازلات كبيرة من أجل الوصول إلى توافق وطني.

 

عقدت حماس وفتح جولة مفاوضات في القاهرة نهاية عام 2017، شارك فيها السنوار باعتباره رئيسًا للحركة في غزة، وبلغ حينها من الاندفاع نحو المصالحة أنه تعهد بـ"كسر عنق من سيعطلها" في تلميح إلى اعتراضات نقلت عن بعض الشباب المنتمين لحماس.

 

ورغم تلك المحاولات، لم يكن عام 2017 سهلًا على فلسطين وقضيتها ولا حركة حماس وقادتها؛ في منتصف العام فُرض حصار شامل على دولة قطر، البلد العربي الأكثر دعما لغزة واحتضانا لقادة المقاومة، وفي الشهر الأخير من العام أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل مهددا بنقل سفارة بلاده إليها، ومدشنا عهد صفقة القرن.

 

يقول أحد المراسلين الصحفيين في غزة إن عددًا من القيادات الفلسطينية حاولوا استلهام شخصية الزعيم ياسر عرفات واستدعاء كاريزميته، وهو ما حدث مع السنوار.

 

فقد تحدث يحيى السنوار طويلًا بين عامي 2018 و2021 عن تبنيه خيار المقاومة اللا عنيفة "على خطى الشهيد ياسر عرفات"، وقام بدعم مسيرات العودة التي بدأت في ذكرى يوم الأرض على حدود قطاع غزة والتي استمرت أكثر من ثمانية عشر شهرًا من مارس/آذار 2018 حتى ديسمبر/كانون الأول 2019.

 

وبحسب باسم نعيم، فإن السنوار قام بضبط أداء الحركة في هذه المرحلة وبعدها إلى حد بعيد، بحيث منع حماس من التورط في معارك عشوائية غير محسوبة العواقب، من غير أن ترفع الحركة الغطاء عن حركة الجهاد الإسلامي التي اشتبكت مع الاحتلال في ظروف ومواقيت مختلفة.

 

قدمت حماس إذن، تحت قيادة السنوار، الكثير من التنازلات والاستجابات لشروط الواقع وضغوطه، رغم ما يقوله بعض أفرادها من أن كل هذا كان جزءًا من عملية الخداع الاستراتيجي. مع ذلك، وفي غياب أي مسار سياسي لتفريغ المبادرات أو التعاطي بإيجابية مع الاستجابات، وصل السنوار إلى اقتناع مفاده أن مسار التنازلات مسار عبثي، في غياب أي رغبة للتعاطي بإيجابية من قبل الأطراف الأخرى، وهو ما عزز اقتناعه بأن تغيير هذا الواقع لا يمكن بغير القوة!

 

كان أكثر ما يشغل السنوار هو كسر توازنات هذا الواقع الذي أقامه السجان لنزلاء غزة، وتصور عبره أنه هندس نظام الحياة فيها. فالضربة تتبعها ضربات متبادلة، فهدم، ثم هدنة، ثم تنفيس باللقيمات والسولار وتصاريح العمل، وفتح مؤقت للمعابر المعطلة، والسلطة الفلسطينية باتت هزلية، حضورها يثير التثاؤب، ووصلت القضية إلى قاعها المنسي، وسرح نتنياهو في المنطقة، شرقا وغربا، يقيم الأحلاف والاتفاقات، وبدا أن المنطقة تندفع وترتاح إلى الصيغة الجديدة.

 

هل كانت القضية في حاجة لتحطيم أغلفة الصمت والتواطؤ؟ يبدو أن السنوار كان يمتلك رؤية ما لدفع الأمور نحو القارعة التي تفجر وتشظي كل ذلك وأن ثمنا ما سيدفع لرفع القضية من أقبية الغفلة والنسيان، وإبلاغ خطاب المحتجين إلى العالم.

 

بهذا المنطق، يمكن تفسير الاختلاف الكبير في الرؤى بين عدد من قادة حماس في الخارج، الذين درسوا وعاشوا في السودان والكويت والسعودية وحتى في الولايات المتحدة وشرق آسيا وأوروبا، وبين يحيى السنوار الذي لم يرغب قط في الخروج من غزة. وحين اقتضت الحاجة التنظيمية خروجه، لم يخرج السنوار بعيدًا إلا ليعود سريعًا.

 

ويقول مصدر مقرب من السنوار إنه تعلم الكثير من التجربة التاريخية لحركات التحرر الفلسطينية، وحرص على ألا يتكرر خطأ تعدد الولاءات داخل الحركة الواحدة، وهو الأمر الذي عانت منه حركة فتح بوجود قياداتها في دول مختلفة، وهو ما أدى لاعتبارهم ذوي ولاءات مركبة، إلى حد تندر الزعيم الراحل ياسر عرفات في اجتماعاته بالقول إن هذا القيادي يتبع سوريا الأسد، وذلك يتبع عراق صدام، وآخر يوالي ليبيا القذافي، وإنه لا يجد قياديًّا يتبع فلسطين!

 

ولذلك أصر السنوار طوال الوقت على الحفاظ على مركزية القيادة في غزة، وهو الأمر الذي ساعد كثيرًا في جولات التفاوض بعد هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، حيث احتفظت قيادة الحركة على الأرض بإدارة دفة التفاوض، بلا خوف من أن تؤدي الضغوط على قادة الحركة في الخارج إلى التوصل إلى تفاهمات لا ترضي طموحات الفلسطينيين.

 

وبهذا المنطق كذلك، يمكن تفسير موقف السنوار من العالم. فالميدان غزة، وفلسطين، أي أن العالم كله يبدأ من فلسطين وينتهي إليها. فلمصلحة فلسطين، لن يكون غريبًا أن يقدم السنوار على التحالف مع بشار الأسد، رغم الانتقادات التي أثارها هذا التحالف، وسيجد أرضية مشتركة مع حكومة عبد الفتاح السيسي بلا نظر إلى عدائه الشديد للإخوان المسلمين، الحركة الأم لحماس، التي انتمى لها السنوار شابًّا.

 

يرى نعيم أن هذا لا يعني إغفال السنوار للطبيعة المركبة للمواقف الإقليمية، بل إن إدراكه للمحددات والفرص التي تقدمها الجغرافيا السياسية يجعله موقنًا بحتمية الإبقاء على علاقات جيدة بالأنظمة العربية، وكذلك بالأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة. يقول نعيم: "حافظ السنوار على نهج محدد: لا ننخرط في الصراعات الداخلية للدول الحليفة، وإذا كان حلفاؤنا لا يطلبون منا أكثر مما تقتضيه المقاومة، فلا معنى لأن نطلب منهم أكثر مما يقتضيه دعمها".

 

كذلك رأت حماس منذ عام 2019 محاولات أطراف داخلية تفجير غضب المواطنين في غزة على المقاومة وسلطتها، وهو ما ظهر في الاحتجاجات التي انطلقت تحت عنوان "بدنا نعيش" وكان آخرها في يوليو/تموز 2023، قبل ثلاثة أشهر من هجوم طوفان الأقصى.

 

لذلك، أكد قادة الحركة مرارًا على أن الانفجار الذي سيحدث سيُوجه لمستحقيه، لا للمقاومة. وهو الأمر الذي أكده باسم نعيم في حوار له مع صحيفة واشنطن بوست، قبل شهر واحد من طوفان الأقصى، حذر فيه من "زلزال" يهز المنطقة إذا لم يتعاط العالم مع مطالب الفلسطينيين.

 

يحمل السنوار أملًا كبيرًا في أن يكون أحد من ينفُذ بهم "وعد الآخرة" بتحرير المسجد الأقصى وفلسطين، ويظهر ذلك جليًا في دعائه "اللهم أنفذ بِنا قدرك فيهم بالزوال والتدمير، اللهم حقّق بِنا آمال شعبنا في العودة والتحرير" الذي يفتتح به لقاءاته. فبعد شهر واحد من نيله حريته في أكتوبر/تشرين الأول 2011، تزوج السنوار بتخطيط من شقيقاته الأربع، ثم أنجب أطفالًا يُروى أنه قال عنهم: "قد تقتل إسرائيل بعضهم، وتعتقل بعضهم، وسيبقى بعضهم لأخذ الثأر والانتقام".

 

يرى السنوار في العالم عدوًّا واحدًا وأصدقاءَ كثرًا. فالحقيقة النهائية عنده هي أن العدو إسرائيل، وأن ما عدا ذلك فهم أصدقاء محتملون، ولا يختلف في هذا رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس عن زعيم حركة أنصار الله في اليمن عبد الملك الحوثي عن المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران. لكن التغيرات الدولية، والاتفاقات الإبراهيمية التي جعلت لإسرائيل حلفاء أكثر مما يمكن أن يقبله قائد فلسطيني حر، ومحاولات تصفية قضايا عودة اللاجئين وتحرير القدس والمسجد الأقصى، جعلته يؤثر الحرب والتضحية لإحياء القضية.

 

وإذا لم تكن المقاومة هي يحيى السنوار، فإن نهج السنوار هو أصدق تعبير عن المقاومة، فإن ما أُخذ بالقوة لن يُسترد إلا بالقوة. وإن كانت الأيام قد أثبتت للسنوار موطئًا يغيظ أعداءه فأصبح من أهم القادة في تاريخ فلسطين، فإن صعوده دليل على وجود غيره يتأهب للصعود، وإثباتٌ أن للمقاومة جدوى مستمرة. ومهما كان ما قد يُنسب إلى السنوار، من شدة أو حزم أو بأس، فإن إنجازه الأعظم سيكون كسر حاجز الخيال، وإعادته الأمل إلى المؤمنين بالعدل والحرية في أن تتحطم الأساطير واحدة تلو الأخرى. فقد أثبت للعالم، كما أخبر صديقه من قبل، أن كسر السلك ممكن، وأثبتت حماس باختيارها له رئيسًا لمكتبها السياسي بالإجماع أن قيادتها تتفق مع السنوار على أن هذا السلك لن يُكسر إلا كما قال: خاوة!

نقلا عن الجزيرة