حينما أسدل الليل أستاره على مقاطعة لكصر بالعاصمة نواكشوط وتوارت شمس الفاتح من مايو خلف الأفق معلمة بانقضاء يوم صاخب من أيام العاصمة التي تنام وتستفيق على الأحاديث السياسية كان أعضاء المكتب السياسي لحزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية ( تواصل )يفدون تباعا إلى المقر الرسمي للحزب بمقاطعة لكصر …
كان هؤلاء الأعضاء -وهم خليط من الرجال والنساء والشباب والشيوخ والمعلمين والدكاترة والأساتذة والمهندسين والمثقفين والتجار ورجال الأعمال -يدركون أن نواكشوط كلها تقف على ساق واحد في انتظار القرار الذي سيصدرون هذ المساء ، ومع بدء الإجتماع بدا أن القوم ليسوا في عجلة من أمرهم وأنهم معنيون بإنضاج القرار وتمحيصه أكثر من الإهتمام بتطلعات سكان عاصمةٍ حبست أنفاسها لتعرف القرار الذي سيصدره هذ المكتب.
كانت لجنة عليا مكلفة من طرف المكتب السياسي قبل عدة أشهر قد أخذت وقتا كافيا لدراسة كل الخيارات والإستماع للجميع وأعدت تقريرا مفصلا مشفوعا بما يكفي من المقترحات وهو بين يدي المكتب للإطلاع وإجراء اللازم ،
وبعد ساعات من النقاش والأخذ والرد ودفاع كلٍّ عن رأيه قال المكتب : ليكن رئيس موريتانيا القادم الرئيس أمادي ول سيد المختار فهو أحقَّ بها وأهلَها وأهلُُ لها .
وقد أوحى هذ الاجتماع وقراره القوي ببعض الملاحظات السريعة من خارج القاعة ومن داخلها لعل منها …
1/- فرضت قيادة تواصل تعتيما متعمدا وقويا على مجريات وسير إجتماع المكتب وأوحت للجميع بإغلاق الهواتف زيادة في الحيطة وسعيا للتركيز في الإجتماع الأهم ، وقد آتت تلك التدابير أكلها فلم يستطع أقرب صحفي للحزب أو مدون أو محب أو غيرهم معرفة أي شيء عن مجريات الاجتماع حتى خروج القرار النهائي وهو أمر قل وندر في بلاد تخرج فيها نتايج إجتماعات مجلس الوزراء والأحزاب والهيئات المدنية والعسكرية قبل فض الإجتماع .
2/- حينما تصل لمقر حزب هو الأكثر تنظيما وشعبية في البلد وأنت تدرك أنك جزء من عدد قليل من الأفراد سيصنع وحده وبمحض إرادته خلال دقايق أو ساعات قرارا ينتظره بلد بأكمله ثم تتذكر أن لا أحد يستطيع أن يملي عليك أو يوجّهك نحو خيار معين فأعلم أنك في تواصل ، إنه شعور يبنيه الحزب في أعضائه وقياداته وهو أحد أسرار النجاح والإستمرار والتطور الذي يعيشه الحزب، فالمرء بطبيعته يحب أن يكون جزء من كلٍّ يصنع ويؤثر ويكره أن يكون ديكورا أو جزء من كل لا يصنع ولا يغير .
3/- رغم أن جل المترشحين للرئاسة بمن فيهم الرئيس غزواني سبق وأن بدؤوا حملة انتخابية سابقة لأوانها وملؤوا الفضاء الأزرق بأنشطتهم المختلفة فإن مساء الأربعاء كان مساء تواصليا خالصا له من دون كل المترشحين فنسى الناس أن ثمة مترشحين كثر ولم يعد ثمة صوت ولا حديث يعلو فوق الحديث عن مرشح تواصل وعن من سيكون ، وهكذ حبس الجميع أنفاسهم وتفرغ كبار المدونين والكتاب لإنتظار النتيجة التي ستخرج هذه المرة من مقر حزب تواصل المركزي .
4/- صحيح أن حزب تواصل تأخر كثيرا في إعلان مرشحه لكن المتأمل الفطن يدرك أنه تأخرُُ ذكي ومفيد وله ما يبرره فقد أراد تواصل أن يسلك أولا كل الطرق المؤدية لتوحيد الصف المعارض حول مرشح واحد ثم طفق يسمع من الشخصيات العامة والمترشحة والمؤهلة وهو في كل ذلك في توءدة من أمره يدرك أن شعبية الحزب جاهزة حاضرة قد قرّبت نجائبها وأسرجت خيلها لا يضرها متى ماكان الإعلان بل صح إن قدم أو أخر ، وفي تأخير الإعلان تكتيك يفوت على النظام أي ترشيح مواز يحرم الحزب من بعض الجيوب الإنتخابية التي لا تنتمي لتواصل لكنها تتخذه خيارا من خياراتها وفي التأخير روية وإنضاج واستماع لكل صوت تواصلي في الداخل والخارج .
5/- بأغلبية مريحة صوت المكتب السياسي لترشيح رئيس الحزب وزعيم المعارضة الرئيس حمادي ول سيدي المختار ليقود الحزب للإنتخابات الرآسية التي أظلت البلد وبذلك القرار استعاد الحزب ألقه الجماهيري وتصدره لعناوين الأخبار والتدوين والحقيقة أنه ما كان لتواصل أن يعمل غير ذلك فلم هذ الإكتفاء الكبير بترشيح الرجل وتقديمه ؟
– الأصل هو ترشيح الرجل فهو رئيس الحزب وزعيم المعارضة قادم من عمق التيار الإسلامي متدثر بوعاء علمي رفيع ومتزمل بخبرة راكمها خلال العشرين عاما المنصرمة مذ كان منسقا للإصلاحيين الوسطيين فنائبا للحزب لمدة إثني عشر عاما تولى خلالها نيابة رئيس البرلمان وقاضيا في المحكمة الدستورية وممثلا للبلد في البرلمان الإسلامي وأستاذا بالمعهد العالي يستعد لأن يكون حاملا لشهادة الدكتوراه من باب الزيتونة بتونس الخضراء.
– حتى مساء الأربعاء المنصرم كان المرشحون الأكثر جدية وحضورا هما الرؤساء غزواني وبيرام والعيد وقد أوحت هذه الخريطة بنذر اصطفاف ينضح مياها عكرة باشرت ثلة من داعمي النظام بالاصطياد فيها مقنعين القاعدة العريضة من الناخبين بأن غزواني مرشح البيظان ومرشح المناطق الشرقية فبيرام والعيد كلاهما حرطاني من ولاية انرارزة ، وهل ثمة رد أقوى وأمضى على هذه الدعاية البغيضة من ترشيح أمادي الفقيه السياسي القادم من أعماق الشرق ومن أعماق المجتمع التقليدي اليميني المحافظ محاطا بزُمرٍ من الشباب المتحرر التحضر المتوثب .
– يدرك المخالط لأهل تواصل عن قرب أن شعبية هذ الحزب تنحصر في ذوائب ثلاث هي :
– دائرة أهل تواصل الخلص وهم الأقل عددا والأكثر التزاما بخط الحزب يدورون معه أينما دار لا يهمهم من رشح الحزب فهم مع خياراته وترشيحاته ولم يضف ترشيح أمادي لهذه الفئة غير راحة بال واطمئنان قلب وسهولة تسويق ودفاع عن رجل لم يدعم قط نظام فساد ولم تتلطخ يداه بمال عام ولم يغلل ولم ينافق.
– الدائرة الثانية وهي أوسع وأكبر وأكثر ففيها طيف إسلامي واسع ومجموعات متدينة عريضة ومعجبون ومحبون وفي هذه المجموعة شركاء متشاكسون فولاؤها الأول لتواصل ولكن الحزب قد يخسرها في حال لم يراع مشاعرها في الترشيخ والإختيار وقد نزل ترشيح الرئيس الفقيه أمادي بسمته وعلمه ودله وفقهه على هذه المجموعات بردا وسلاما فهو حب صادف حبا وإعجابا قديمين فتمكنا …
– المجموعة الأكبر وهي خليط من العامة والمعجبين بالنهج الديمقراطي للحزب والمغاضبين والباحثين عن أقوى معارضي النظام والمترددين وجمع من أعضاء حزب “الكنبة” وبعض القبليين والجهويين والمرتبطين بعلاقات أو صداقات مع قيادات الحزب وأفراده الفاعلين وقد ودّ كثير من هؤلاء أن لا يرشح لهم تواصل بالإنابة ولا يدعم غيره فإعجابهم بالحزب غير متعد ولا تلزمهم خيارات الحزب خارج دائرة الحزب فتقبلت هذه المجموعة ترشيح الرجل قبولا حسنا ورأت فيه عودة لجادة الصواب بعد أن فشى في الناس أن تواصل في طريقه لتقديم وتلميع مرشحين من خارجه .
فهل يجمع الله لتواصل بترشيح الرئيس أمادي ما فرقته دروب السياسة والخيارات الصعبة الخارجة عن السياق خلال السنوات المنصرمة ؟