الممارسة السياسية الرصينة هي فنُّ تحقيق الممكن، ضمن معادلات الزمان والمكان والإمكان، من خلال بناء المساحات المشتركة، حتى وإن اقتضى الأمر التحالف السياسي مع مخالف ضد مخالف، والاستعانة العسكرية بعدوّ على عدوّ. والسياسة الرصينة هي التي سنَّها لنا نبينا صلى الله عليه وسلم حين بعث أصحابه للاحتماء بملِك الحبشة المسيحي، واتَّخذ من المشرك عبد الله بن أريقط دليلا في هجرته، ودخل في جوار المشرك المطعم بن عدي احتماءً من مشركي مكة، واستعار السلاح من المشرك صفوان بن أمية ليقاتل به المشركين في حنين، واستخدم الشاعر المشرك معبد بن أبي معبد في الحرب النفسية على مشركي قريش، وحالف قبيلة خزاعة، فكانوا "عَيْبَة نُصْح لرسول الله بتِهامة مُسلمُهم وكافِرهم".. وليس بناء المساحات المشتركة مع الآخرين -بما في ذلك الاستعانة بعدوّ على عدوّ- مما يُعاب في السياسة العملية. أما السياسة الساذجة الحالمة فيظن أصحابها أنهم يتحركون في كون خالٍ إلا منهم. وإن دفعتهم الضرورات العملية إلى الاستعانة بطرف غير مرغوب فيه ارتبكوا وجادلوا، وتمحَّلوا في تبرئة ذواتهم "الطاهرة" وأفعالهم "المطهَّرة"، دون داع لكل ذلك التكلف. قد يكون ممكنا في الماضي لقاء قادة المجاهدين الأفغان بالرئيس الأميركي ريغان في البيت الأبيض، ثم الادِّعاء في الإعلام أنهم زاروه لدعوته إلى الإسلام. لكن الأوْلى في عصر ثورة الاتصال الحالية أن نتحرر من الطفولة الثورية، ونمارس السياسة العملية على أصولها: بذكاء استراتيجي، وتواضع أخلاقي، ودون رياء أو مراء. فحتى الاستعانة بعدوّ على عدوّ أمر طبيعي في السياسة، وكما قال المفكر الاستراتيجي من مؤسسة (راند) الأميركية روبرت ووهلستتر: "ليست أهدافنا متناقضة بالضرورة مع أهداف عدوّنا". ولا فرق بين غرفة (بيشاور) قديما، وغرفة (المُوكْ) حديثا، فكلاهما غرفة استراتيجية لإدارة القوى الإقليمية حروبا نيابة عن القوى الدولية. ولا فرق بين صواريخ (ستينغر) في الماضي، وصواريخ (التاو) في الحاضر، فكلها أسلحة أميركية لا تُمنح لوجه الله، ولا تباع دون رخصة أميركية. والثائر الذكي يستثمر "لعبة الأمم"، فيناور في الصدوع بين الكبار لتحقيق أهدافه. وهو لا يتوقع من داعم إقليمي أو دولي أن يدعمه إيمانا واحتسابا، وإنما هو يدعمك لتحقيق أهدافه الخاصة التي قد لا تكون في صالحك، وأنت تستثمر دعمه لتحقيق أهدافك الخاصة التي قد لا تكون في صالحه. والله تعالى يؤيِّد هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خلاق لهم، وكلٌّ محشورٌ على نِيَته. فارحموا بعضكم البعض أيها الثوار الأحرار في سوريا واليمن وفلسطين، واحرصوا على ما ينفعكم، ولا تحرِّجوا على إخوانكم إن حرصوا على ما ينفعهم. وليهتمَّ كلٌّ منكم بتحصين ثغره، ولينشغلْ بالعمل عن الجدل، ولا يُؤتَيَنَّ الإسلام وأمَّته مِن قِبَلِكم وأنتم غارقون في المزايدات والحِجَاج واللَّجاج.. شكَر الله مسعاكم، وسدَّد خطاكم، ونصَركم على أنفسكم وعلى عدوّكم..